أتَبَجَّح دائماً حين أدرك أنني فعلاً أعيش في هذا الزمان. وربما أغْتمُّ أيما غُمَّة حين أتخيّل نفسي لو أنني عشتُ في زمَنٍ ولَّى منذ مِئة عام. كنتُ دائماً ما أقول هذا الرأي أمام أفراد كُهُول أكارم، والذين يستهويهم عادة تذكّر زمانهم الغابر. ولطالما سمعتُ منهم صَدّاً وأنا أقول ذلك، لأنني في نظرهم أتجنّى على ذاكرة مقدسة. ولَمْ أجِد نصيراً من أحد ممن هم في أعمارهم يناكفهم القول أو يدحضه سوى إحدى الجدَّات أطال الله في عمرها كشاهدة حيّة على ذلك العصر.
كنتُ أقول لهم: بأن كثيراً من مشاكلنا قد وَرِثَها هذا الجيل من الأقدمين آباءً وأجداداً. عندما كنت أقرأ في المخطوطات الانجليزية وكتابات فؤاد إسحاق الخوري وأسمع نمنمات هنا وهناك عن عداوات ومُشاحنات الماضي (والتي صداها لا يزال حاضراً إلى يومنا هذا) أصابُ بالدُّوَار. وعندما كنت أسمع عن قسوة الآباء على الأبناء، والإخوة على بعضهم البعض، والأقارب على الأقارب أكَادُ لا أصدّق. ولو أن نظام المصالح آنذاك كان بحجم مصالح يومنا هذا من حيث العلاقات بين الأفراد واتساع حجم المال المُسال والأصول لكانت الصراعات أكثر دموية.
تُحدّثني تلك المرأة الطاعنة في السِّن عن ذلك الزمان بمرارة. تخرج النساء من بيوتِهِنَّ من الصباح وهُنّ يحملن الثياب المُتِّسخة على هاماتِهِنَّ إلى العُيُون. وبعد الدَّعْكِ والرَّمْسِ في الماء، يأتِيْن إلى بُيُوتِهِنّ السَّعَفيّة، أو الطينية المهترئة لإكمال واجب الوفادة لرجالِهِن. كُنَّ يفتقرن لأبسط أنواع الراحة والنظافة. لا تعليم ولا مواصلات ولا مُبرِّدات تُريحك في المنام ولا وفرة في الطعام ولا علاج يداوي الأدواء. بعضُهُنَّ كُنَّ يدخُلْنَ البحر فجراً قاصِدات مصائد الأسماك المُسَوَّرة ليبِعْنَهُ في السوق، ثم يرجعن إلى بيوتهن ساعة الظهر للطهي ومتابعة شئون الأبناء والأزواج إلى المساء وهكذا دواليك.
في ذلك الأوان كانت النساء عادة ما يفقدن فَلَذات أكبادهن وهم صغار نتيجة عَارِضٍ صحّي. بعضهن كُنَّ يفقدِن ولداً أو وَلَدَيْن وربما ثلاثة. في أغلب الأحيان يكون العارض الصحي غير معروف لمُشَخِّصِيه. وإن فُقِهَ له، فإنهنّ عادة ما يكنّ عاجزات عن الإتيان له بدواء. فَقَدت تلك المرأة ولدها البكر بعد سنتين من ولادته. سألتها عن سبب الوفاة فردّت: مَا عَرَفَوْا لَيهْ ومَاتْ. ربما كانت حُمَّى أو احتقان في الحَلْق، أو فايروس في الدم كان يُمكن معالجته بالمضادات كما هو معمول اليوم، لكن ذلك لم يحصل لنقص في الخبرات والأفهام والأدوات.
المُغرَمون بذلك الزمان يقولون إن هذه الأمراض وغيرها لم تكُن منتشرة آنذاك. لكن ذلك غير صحيح بالمرّة. فوباء الكوليرا ظَهَرَ في ولاية البنغال والهند في العام 1820. والطاعون ظَهَرَ في منطقتي الشرق الأوسط وحوض البحر المتوسط في العام 500م.
بل إن الأمراض الوراثية والخَلْقِيَّة وأمراض الأورام والجهاز المناعي جميعها قد عرفها البشر منذ مئات (وربما آلاف السنين). ولم يكن الإنسان بقادر على مقاومتها إلاّ بعد اكتشاف الميكروسكوب. لك أن تتخيّل أن مرض الطاعون عندما ضَرَبَ أوروبا أهلَك نصف سكانها.
في المحصلة فإن ما يعنينا من كلّ ذلك هو وجوب اقتناعنا أننا محظوظون حقاً بالعيش في هذا الزمان، والتأسّي على زمان مضَى عانى فيه الأقدمون ما عانوه. لكن المعادلة الفعلية في ذلك أيضاً هو أننا نحن مَنْ يصيغ هذه الحياة بالصّورة التي تُوفّر لنا عالَماً خالياً من المشاكل ومن الضغائن والآفات الاجتماعية، لأن كل الأدوات والوسائل التي تدفعنا إلى ذلك مُتاحة، ولا حُجَّة لأحد اليوم أن يقول عكس ذلك.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3030 - الأربعاء 22 ديسمبر 2010م الموافق 16 محرم 1432هـ
سيد على
الصحة ياسيدى الفاضل هى الفاصل فى تلقياتنا اليومية فالمرأة التى كابدت كل تلك المحن حتى توفى حقوق الابناء والزوج حقاً عظيمة.. ربما تعتقد انى مغاليا حين اقول هؤلاء النسون الجنة الموعودة قليلة عليهن ...نعم قليلة عليهن
ولكن ايا كان الوقت الذى نعيشة الحاضر المرفة ام الماضى القاسى وهما بقياس الرائى مختلفان والكفة ربما ترجح الحاضر ولكن فى وجود الصحة كتلك التى اودعها اللة تلك السيدة الفاضلة ..هى الفاصل بين السعادة والتعاسة والا لما ترحم اجدادنا على الماضى....عفوا على الصحة ياعزيزى
اختلاف
الأخ محمد
أختلف معك في رؤيتك لهذا العصر التعيس الممل الكريه الذي اصبح فيه الناس تأكل بعضها وكأنها إدام ورز في الزمن القديم على افل تقدير كان المجتمع يساعد بعضه حتى في بناء المساكن
فلا خير في هكذا حياة
قيمة الحياة من قيمة الأحياء الذين هم فيها فإن كانوا جثثاً فلا خير في هكذا حياة
غربة في الوطن
جل ما ذكرته يا عزيزي صحيح .. وإن امتاز الماضي عن الحاضر بأحاسيس من عاشوا فيه، فتفضيلك للحاضر على الماضي بسبب الرفاهية والتقدم الطبي والتكنولوجي له ما يبرره كهذه الأسباب، لكن ماذا عن مصاعب عالم اليوم؟ أليست هموم كالجبال إذا ما قيست بمصاعب الأمس؟ ألا يعيش بعضنا في وطنه كالغريب؟ فغربة الوطن ـ أبعدك الله عنها ـ أكثر هماً من الابتعاد عنه! والغد سيكون أفضل من اليوم بالتقدم العلمي والطبي أيضاً إن لم تتعاظم هموم المواطن عما هي عليه اليوم !
ان شعب البحرين من اطيب الشعوب ولكن الظروف القاسية
هي التي تصنع الانسان على القسوة وتجبره على ذلك ،وهذا واضح الآن العصبية والانتحار والامراض المزمنه المنتشره في شعب لا يتعدى تعداده نصف مليون نسمة ويضاهي معاناته شعوب الملايين مثل الهند والصين والا كيف يكون ذلك في الحالة الطبيعية يكون الشعب مرفه اكثر من كثير من شعوب العالم لقلة عددة وهو = احدى سكان ناطحات السحاب في امريكا ، والله المستعان على الظروف القادمة مع مشاكل التجنيس التعيس الذي فرض على المواطن فرضا واصبح واقع معاش ،ومنه المنه والعافية ، ونطلب من البرلمانيين مناقشته في الانعقاد القادم .
زمان
في الزمان الماضي كانت الناس منهوكة متعبة تعيش ضنك الحياة اما اليوم بالوضع افضل بلا ريب ولكن طمع الانسان هو الذي يدفعه ان يكون عدوانيا
الف شكرا عبد عي عباس البصري
كاتب قدير متمكن من اللغه ، والسرد ، انته استاذ اول للغه وللسرد الادبي اكيد / كثر الله من امثالك
أتفق معاك كلامك صحيح 100%
حتى من عاش قبل 200 سنة يتحسر على زمن أبوه وهكذا , أنها عقدة الحنين للماضي حين يذهب , طبيعة التاريخ تقدمية والحياة اليوم أفضل بكثير فقط تحتاج لمن يفهمها, السؤال هنا هل لو خرج شخص من ذلك الزمن لزماننا هل سيقبل أن يعود به الزمان للزمن الذي عاش فيه وهل سيقبل من عاش في أيامنا ان يقبل ان يعيش في عريش ومن دون سخان ماء ومن دون أمصال وعمليات جراحية وو. اعتقد لمن يحن للماضي ويتوهم أفضليته وحتى لو لم يعش فيه يعتقد بذلك بسبب ظروف يمر بها مادية او أجتماعية فقط لا اكثر .. عقدة النقص تفرض شعور بأن الماضي أفضل
السعادة الحقيقية هي الاساس
لو كان الانسان جسد بلا روح لكان كلامك جدا صحيح لانك تجاهلت معنى السعادة . فالذي يذهب لشراء حاجياته من البرادة على بعد أمتار ليس وضعه أفضل من الذي يمشي خطوات حتى يصل ، فالثاني أقرب للعافية . "وما خير بخير بعده النار ولا شر بشر بعده الجنة" من حكم النهج .