العدد 3027 - الأحد 19 ديسمبر 2010م الموافق 13 محرم 1432هـ

النموذج القطري في التنمية

عبدالحسن بوحسين comments [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

تتسم سياسة التنمية في دول مجلس التعاون الخليجي بالتمازج والتوافق في الأهداف والأسس مع بعض من التباين في الآليات والوسائل. فالنموذج البحريني مثلاً يختلف عن النموذج الدبوي أو الكويتي من حيث درجة المحافظة والانفتاح في بعض القطاعات الاقتصادية. ولكون النموذج البحريني قد شكل حافزاً للأشقاء في دولة قطر وخاصة في الثمانينيات من القرن الماضي بات من الضروري تقديم استعراض سريع للتجربة البحرينية في إطار تناولنا لبعض أوجه التجربة القطرية ما يساعدنا على التعرف على النموذج القطري بشكل أوضح.

البحرين تعتبر رائدة في الاكتشاف المبكر للنفط على أراضيها. ورغم كميته المحدودة إلا أنه شكل قاعدة لتنمية مستدامة وضعت وفقاً لسياسة تنويع مصادر الدخل التي تبلورت بإيجاد قطاع صناعي مكمل لصناعة النفط كالبتروكيماويات, وإصلاح السفن, والألمنيوم, والصناعات التحويلية المنبثقة عنه. هذا بالإضافة إلى تطوير قطاع الاتصالات والمواصلات. وبفضل السياسة الاقتصادية الحكيمة للقيادة السياسية وعلى رأسها ربان النهضة الاقتصادية صاحب السمو رئيس الوزراء أصبحت البحرين مركزاً مالياً عالمياً متميزاً.

ولم يركز النموذج البحريني على محور أو قطاع واحد كالقطاع العقاري مثلاً, بل اتسم بالتكامل. فإلى جانب سياسة تنويع مصادر الدخل عملت البحرين على محورين آخرين هما محور إصلاح الإدارة العامة ليكون أكثر كفاءة واستجابة لمتطلبات الإصلاح الاقتصادي, فتم تنظيم ديوان الموظفين وفقاً لمفاهيم عالمية لتمكينه من المساهمة في إصلاح الإدارة العامة وإعادة تنظيم الأجهزة الحكومية وفقاً لمتطلبات التنمية المستجدة. وكانت تجربة البحرين في هذا الجانب رائدة, ونالت الإعجاب على المستوى الإقليمي والدولي.

المحور الآخر هو محور التنمية البشرية والتوازن في سياسة التوزيع العادل للثروة إيماناً من القيادة السياسية بأن لا تنمية بدون إنسان مقتدر. وقد تمكنت الحكومة من تشييد بنية تحتية عصرية تمثلت في توفير خدمات صحية وتعليمية وإسكانية متطورة, فأنشأت مدينة عيسى ومدينة حمد ووزعت القسائم السكنية على مواطنيها.

وبفضل التوازن المعقول في تبني مبادئ تكافؤ الفرص تعزز وجود الطبقة الوسطى التي شاركت بفعالية في مسيرة التنمية. ويبدو أن هذا النموذج البحريني الرائد قد استكمل مقوماته فأصبح التركيز على الاستثمار في القطاع العقاري من أبرز السمات خلال السنوات العشر الماضية كما نراها واضحة في مشاريع الجزر والأبراج الخاصة. في هذه الحقبة بالذات وفي هذا المنعطف التاريخي يأتي النموذج القطري مستلهماً النموذج البحريني السابق ولكن بوسائل مختلفة ومستنداً على قاعدة كبيرة من النفط والغاز.


النموذج القطري

كما البحرين كانت قطر مأهولة منذ الألف الرابع قبل الميلاد, فالمؤرخ اليوناني هيرودوش أشار إليها, كما ضمنها عالم الجغرافيا بطليموس في خريطته المتعلقة بالعالم العربي. وبالرغم من حصول قطر على استقلالها في العام 1971 إلا أن وتيرة التنمية الاقتصادية لم تسرع خطاها إلا في العام 1995. ففي مطلع الثمانينيات كان الأخوة في قطر يتلمسون طريقهم للاستفادة من التجارب الأخرى ومن بينها تجربة البحرين.

إن المتتبع للتجربة القطرية لابد أن ينتابه الإعجاب. ففي فترة زمنية قصيرة لا تتعدى خمسة عشر عاماً تخطط قطر الآن لأن تصبح ثاني أكبر اقتصاد في منطقة الخليج. فما هي ملامح هذا النموذج القطري الصاعد؟

النموذج القطري مدعوم بقطاع الهيدروكربون الذي يعتبر المحرك الرئيسي للتنمية الاقتصادية, وبإرادة سياسية طموحة تسعى بخطى حثيثة لاختصار الزمن. وللتعرف على ملامح هذا النموذج نلقي الضوء هنا على بعض من مكوناته وهي:

أولاً: الاقتصاد

تناولت وكالات التصنيف العالمية مثل موديز وستاندر أند بورز قصة نجاح الاقتصاد القطري فمنحته أعلى درجات الملاءة المالية. كما كشف تقرير لصندوق النقد الدولي أن عائدات الغاز, لا النفط, تحتل المرتبة الأولى وأن الناتج المحلي الإجمالي الفعلي ينمو بمعدل 18 في المئة, أي بما يفوق المعدل الصيني.

إن تنويع مصادر الدخل في النموذج القطري مازج بين النفط والغاز الذي شكلت حصته 52 في المئة من قيمة الصادرات. وقد تمكنت قطر هذا العام من بلوغ طاقتها الإنتاجية من الغاز الطبيعي المسال والتي بلغت 77 مليون طن قبل المدة المخطط لها وهي العام 2012. فقطر التي تملك ثالث أكبر مخزون للغاز الطبيعي على مستوى العالم أصبحت الآن أكبر دولة منتجة للغاز المسال. وهذا التنوع في مصادر الدخل يتيح لدولة قطر الاستمرار في النمو على المستوى البعيد حتى لو تراجع سعر البرميل من النفط وذلك وفقاً لتقرير إتش إس بي سي. كما يتيح لها ذلك التوسع في صناعة الألمنيوم, وتطوير البنية التحتية اللازمة للتنمية, والاستثمار في أبحاث الطاقة الشمسية والنقل البحري والجوي، حيث تتمتع خطوط الطيران القطرية بسمعة عالمية وتحوز على حصة كبيرة من سوق السفر العالمي.

من جهة أخرى فقد ساعد هذا التنوع الاقتصادي على ارتفاع حجم الناتج المحلي ليبلغ 108 مليارات دولار, ومن المتوقع أن يصل حجم الاقتصاد القطري 142 مليار دولار في العام 2012 وفقاً لتقرير مجلة يورو موني.

إن هذا المستوى المرتفع من النمو سيمكن قطر من اتخاذ خطوات إضافية في مجال الاستحواذ على بعض الشركات العالمية المرموقة ما يعزز حضورها على الساحة الاقتصادية والسياسية العالمية.

وبالنسبة للقطاع العقاري لم يركز النموذج القطري كغيره على الاستثمار العقاري إلا وفقاً لمتطلبات التنمية ما يفسر صمود هذا القطاع في مواجهة الأزمة المالية العالمية وتحقيق التوازن بين العرض والطلب.

من جهة أخرى فقد ربطت الجهات الاقتصادية العالمية بين فوز دولة قطر باستضافة بطولة كأس العالم لكرة القدم العام 2022 وبين ما تملكه من مقومات عالمية للتنمية. وقد ذكرت مجلة «ميد» أن هذا الفوز سيطلق مشاريع هائلة تبلغ تكاليفها الإجمالية 60 مليار دولار من ضمنها تسعة ملاعب متطورة و80 ألف غرفة فندقية وشبكة طرق متطورة من بينها شبكة مترو عالي السرعة مرتبطة بالشبكة الخليجية المتوقع أن تربط البحرين بقطر من خلال جسر المحبة الذي سيشكل عاملاً مهماً لاستضافة بطولة كأس العالم وفقاً للتقييم الصادر عن «الفيفا». فباقة المشاريع المعدَّة لنهائيات كأس العالم ستعطي هذا القطاع دفعة قوية لعشر سنوات قادمة.

ثانياً: التنمية البشرية

انعكست سياسة التنمية في قطر بصورة مباشرة على المستوى المعيشي للمواطن فقد بلغ نصيب الفرد من الدخل ما يزيد على مئة ألف دولار في السنة محتلاً بذلك المركز الثاني عالمياً بعد لوكسمبورج.

وبالرغم من حداثة التعليم في قطر (1952) فقد شهد قفزات نوعية تمشياً مع طموحات التنمية, ومتمثلاً بدعم حكومي كبير متجسداً في تزويد المدارس الخاصة والعامة بجميع الخدمات الصحية والكهرباء والماء والكتب والقرطاسية مجاناً. وفي مجال الإدارة التربوية تبنت قطر في خطوة جريئة نظام المدارس المستقلة.

لقد افتتحت جامعة قطر في العام 1975, في حين جلب مشروع المدينة التعليمية أفضل الجامعات العالمية المرموقة ذات المعايير الرفيعة البعيدة عن نمط المتاجرة الرخيصة في تحصيل المعرفة والتي تفسد أي توجه حقيقي للتنمية.

لهذه الأسباب وغيرها حصلت قطر على المرتبة الثالثة والثلاثين في التنمية البشرية على المستوى العالمي.

يرى البعض أن العامل الديموغرافي قد يحدّ من طموحات التنمية القطرية. فحجم السكان في قطر لم يتجاوز المليون والسبعمئة ألف, إلا أن التركيز على عنصر الجودة من خلال التعليم والتدريب والتأهيل العالي, ومن خلال تعزيز روح المواطنة والمنافسة وتكافؤ الفرص, والاعتماد على جهد المواطن وعزيمته هو البديل الصحيح للتوطين والاستبدال وعقدة الشك والخوف التي لا تسمح في كل الأحوال بأية تنمية مستدامة مهما بلغ التوغل في دهاليزها المعتمة.

من جهة أخرى، فبفضل الاستقرار الداخلي والتوازن السياسي فقد تمكنت قطر من توجيه مواردها للتنمية بدلاً من استهلاكها في أجهزة أمنية متخمة تستنزف مواردها وتشكل عبئاً اقتصادياً واجتماعياً عليها. فمادام النظام السياسي متصالحاً مع جميع مواطنيه فإن الخوف من الداخل يتلاشى, وتتلاشى معه الحاجة لاستنزاف الموارد في أجهزة غير منتجة.

لقد تبنت الشقيقة قطر نموذجاً للتنمية ستكون له انعكاساته على مستوى المنطقة. وهذا النموذج جدير بالتأمل لكي تعود منافعه على شعوب هذه المنطقة قبل غيرها.

فتَحِيَّة لأهلنا في قطر بمناسبة عيدهم الوطني ودامت أيامهم كلها أعياداً.

إقرأ أيضا لـ "عبدالحسن بوحسين"

العدد 3027 - الأحد 19 ديسمبر 2010م الموافق 13 محرم 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 2:43 ص

      مقالة في الصميم

      كلام حكيم من رجل حكيم . الكلمات واضحة و نتمتى ان يقرأوا ليفهموا ان الداخل هو الجدار الأول و صمام الأمان

اقرأ ايضاً