المراجعة التي قام بها الرئيس باراك اوباما للاستراتيجية الأميركية في أفغانستان كشفت عن بدء الاعتراف بوجود صعوبات تواجه العمليات العسكرية يمكن لها ان تتضخم وتتفاقم في بعض المناطق والجيوب وقد تؤدي إلى اخفاقات تقود إلى فشل المهمات التي وعد الناخب بها في خطابات الترشح إلى منصب الرئاسة.
هناك نوع من الخيبة بدأت تتضاعف حدة لهجتها ما يؤشر إلى احتمال بدء التراجع عن تلك الوعود الزاهية التي أطلقها اوباما بعد تسلمه مقاليد إدارة البيت الأبيض وتكليف مبعوثه ريتشارد هولبرك الاشراف على الملف الأفغاني.
هولبرك رحل متعباً وباكراً حين اكتشف ان حل الأزمة الأفغانية أصعب وأكثر تعقيداً من نجاحه المشهود له في تفكيك الازمة اليوغوسلافية. فالأخيرة سهلة قياساً بالأولى وذلك لأسباب وخصائص عدة منها مثلاً ان بيئة يوغوسلافيا وجغرافيتها ومحيطها الثقافي وإطارها الأوروبي كلها تشكل عوامل مساعدة يمكن الاعتماد عليها لانجاح المهمة الدبلوماسية التي كلفه بها الرئيس بيل كلينتون في تسعينات القرن الماضي.
بيئة أفغانستان وجغرافيتها ومحيطها الثقافي وإطارها الآسيوي (جنوب غرب القارة) تعتبر مجتمعة عوامل غير مساعدة ولا يمكن الاعتماد عليها للخروج من المأزق الذي قرر اوباما السقوط به انطلاقاً من شعار ملاحقة الإرهاب وتجفيفه من منابعه.
اوباما لاحظ قبل فوات الاوان وبعيد رحيل مبعوثه هولبرك إلى المنطقة ان الأزمة ليست بسيطة إلى هذه الدرجة وانها اكبر من ان تعالج في إطار نزعة عسكرية ورؤية أمنية. فالمشكلة اقدم من حركة «طالبان» وتتخطى حدود تنظيم «القاعدة» ولا تنحصر في جغرافية أفغانستان وذلك لاسباب وعوامل كثيرة منها ما يتعلق بتضاريس الطبيعة ونمط المعاش ومنها ما يتصل بالامتداد القبلي - الاقوامي الإقليمي للجماعات الأهلية (البشتون، الطاجيك، البلوش، الاوزبك، الهزارة، وغيرها من أقليات واكثريات).
طبيعة الاجتماع البشري المعطوف على تضاريس الجغرافيا والتمدد التاريخي للازمة منذ عهد الاستعمار البريطاني وتشكل «الدولة» الوطنية المعاصرة مروراً بمرحلة الغزو السوفياتي وتدويل الأزمة وانتهاء بالحروب القبلية (الجهادية) لوراثة السلطة بعد انفكاك قبضة الكرملين ونجاح «طالبان» في فرض سلطانها وصولاً إلى إعلان «تيار المحافظين الجدد» معركة القضاء على الإرهاب الدولي واحتلال أفغانستان.
هذا التاريخ الممتد من الحروب الدائمة يشكل أساس فشل الاستراتيجية الأميركية العسكرية في شقيها البوشي والاوبامي باعتبار ان الدول الكبرى حين تدخل إلى حقل ألغام وتحاول السيطرة على بلد يخوض معارك أهلية (قبائل مسلحة) تكون قد اتخذت قرار المغامرة واختبار فائدة الانتحار. والدول الكبرى حين تقرر الانتحار تكون خسائرها المادية والمعنوية ومضاعفاتها النفسية أكثر من تلك الحسابات الرقمية البشرية التي تصدرها البلاغات العسكرية وتقارير الدفاع (البنتاغون) وتقديرات الوزير روبرت غيتس عن إحراز «التقدم الملموس على الأرض».
كلام الوزير عن إحراز تقدم مجرد هراء لانه يعتمد معادلات الربح والخسارة الرقمية في بلد لا يعترف أصلاً بالحساب. فالوزير يتحدث في منشوراته العسكرية عن عدد القتلى والجرحى والاعتقالات التي أوقعها في «صفوف الاعتداء» معتبراً انها وقائع حسية تكشف عن معطى النجاح في تسجيل انتصار لاحق على القوى المعادية.
الحرب على أفغانستان وغيرها لا يمكن بناء نتائجها على حسابات رقمية لأن الأرقام لا قيمة لها في معادلة الربح والخسارة ومنطق الغلبة. مثلاً يمكن أن تدّعي الولايات المتحدة الانتصار لأنها كبدت «طالبان» أمس 25 قتيلاً ومئة جريح. وترد «طالبان» في اليوم التالي بادعاء الانتصار لأنها نجحت في قتل عريف أو شرطي أو جرح ضابط في كمين. الحسابات هنا مضادة في جوهرها لأن منطق «طالبان» الرقمي يعادل بين مئة افغاني مقابل جندي أميركي واحد.
هذه المعضلة اشار إليها من دون توضيح وزير الدفاع غيتس في محاضرة خطيرة للغاية ألقاها قبل ثلاثة أشهر وتحدث فيها عن أزمة الجيش الأميركي والمتغيرات التي طرأت على بنيته البشرية وثقافته والصعوبات التي تواجه «البنتاغون» في التجنيد وحشد الانصار للدفاع عن «النموذج». محاضرة غيتس عن الأزمة البنيوية للجيش الأميركي أهم بدرجات من مراجعة اوباما لاستراتيجيته العسكرية في أفغانستان ومحاولاته رمي الكرة في الملعب الباكستاني وتحميل اسلام اباد مسئولية فشله المتوقع ومطالبتها بان تلعب دوراً اكبر في مكافحة «طالبان» وملاحقتها في منطقة القبائل (وزيرستان).
محاضرة غيتس اصدق من مراجعة اوباما. فالأخير يحاول التهرب من المسئولية وإلقاء تبعاتها على الغير (الخارج) وامتداد الحدود وتداخلها بينما الأول أعاد الأزمة إلى أصلها أو منبعها وهو يتمثل في الطور الراهن في أميركا وما تتعرض له من متحولات أخذت تنعكس على هيكلية الجيش وتعصف بتوازن بنيته وتكوينه البشري ونسيجه الاجتماعي وتركيبه اللوني ومدى استعداد الجنود للتضحية دفاعاً عن «النموذج».
المشكلة اذن في الولايات المتحدة (الداخل الأميركي) وليست في أفغانستان (المحيط العالمي). وهذا بالضبط جوهر ما حاول قوله غيتس بتهذيب خلال محاضرته عن مأزق الجيش وصعوبات التجنيد والتحشيد وابتعاد سكان المدن عنه ونمو نسبة اهالي الارياف والضواحي والمجنسين أو الطامحين بالحصول على الإقامة والهوية في صفوفه.
المسألة الثقافية - اللونية ليست كافية لتوضيح عوامل ضعف الجيش الأميركي في حروبه الخارجية. فهناك عناصر اضافية يمكن ملاحظتها للدلالة على نمو العجز في البناء الهيكلي للمؤسسة العسكرية وهي تتمثل في المبالغة على اعتماد «الطائرة من دون طيار» لتسديد ضربات عمياء وغير ذكية على أهداف مجهولة وغامضة، معطوفة على الإفراط في الاعتماد على مهمات خاصة للشركات الأمنية والاستنجاد باحتياط من المرتزقة من خارج الولايات المتحدة مقابل معاشات وإغراءات أرهقت الخزانة الأميركية بالديون... وغيرها من حالات متواترة تكشف عن ضعف قوة عظمى وبداية تراجع في دور دولة كبرى.
مراجعة أوباما البرغماتية للاستراتيجية العسكرية في أفغانستان واتصاله الهاتفي بالرئيس الباكستاني لشرح معنى ملاحظاته عن تقصير اسلام آباد ووعوده بالدعم المالي والعسكري، مضافة إلى توضيحات غيتس وتقديراته بشأن احتمالات الربح والخسارة (المعادلة الرقمية) لا قيمة لها في بلدان لا تعترف بالحساب أو المنطق الرياضي أو علم الهندسة في الدراسة أو القراءة والمراجعة. فكل هذا الكلام عن القتل هنا وهناك (طائرات من دون طيار) يفتقد وظيفته الميدانية حين تكون أصل المشكلة في الولايات المتحدة كما حاول غيتس ان يقول في محاضرته لتبرير منشأ أزمة الجيش الأميركي واضطراره إلى اللجوء لوسائل مختلفة لتغطية النقص البشري الذي تحتاجه الحروب عادة لإحراز «تقدم على الأرض».
«طائرة من دون طيار» والمرتزقة والشركات الأمنية والإغراءات المالية والوعود بالتجنيس (اعطاء هويات للمقيمين) كلها دلالات تؤشر إلى تفاقم معضلة لا تبدأ بأفغانستان وإنما قد تنتهي بها لتعود وترتد إلى أصلها (الداخل الأميركي) وذلك لسبب بسيط وهو ان مصدر الضعف والقوة للدول الكبرى ليس في تطور الآلة فقط وإنما في تراجع قوة البشر أيضاً، وعدم استعداد المواطن للتضحية دفاعاً عن نموذج دولته
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 3026 - السبت 18 ديسمبر 2010م الموافق 12 محرم 1432هـ