تصلني كل يوم طلبات للصداقة على الفيسبوك والتويتر، وكم أشعر بالامتنان لكل من يمنحني صداقته، وكلما قبلتُ طلباً جديداً، نظرتُ في سيرة صاحبه لأعرفه عن قرب. إلا أنني أستغرب عندما أجد بعض الناس يُصرّون على ذِكر مذاهبهم أو دينهم في سيرتهم الذاتية. فلقد قرأتُ في بعض السير تصنيفات مثل (طبيب مسلم)، (كاتب شيعي)، (مهندس سنّي)، (باحث إسلامي)، (على مذهب السلف الصالح)، وقِس على هذا المنوال.
لا أعلم لماذا يحب البعض أن يُصنّف نفسه على أنه متدين، ولا أدري إن كان يدري بأنه يمارس عُنصرية اجتماعية وعقائدية، قد يجهل خطورتها على تلاحم المجتمع واستقراره. فعندما يقول أحدهم «أنا متدين» فإن لسان حاله يقول للآخرين «أنتم لستم متدينين، إذن أنتم على ضلال»، ولم تكن فكرة التدين هذه موجودة في الإسلام أصلاً، وكان الجميع، من مسلمين وغير مسلمين، يرفلون تحت راية الدين دون أن تُشكّل الفروقات العقائدية بينهم خلافات مصيرية، إلا في بعض عصور تراجع الأمة، كما هو الحال اليوم.
ثم أقرأ على صفحات بعض المتحمسين زعمهم أن تديّن المسلمين سيحقق لهم النهضة التي يسعون لها، وأتساءل: ما العلاقة بين النهضة وبين التدين؟ ففي التاريخ الإسلامي، نجد أن الدولة الأموية، التي كانت قريبة عهد بمرحلة النبوة، وكانت مظاهر التدين والتمسك بتعاليم الدين سائدة فيها أكثر من الدول التي أتت بعدها، لم تَقُم بها نهضة إنسانية، ولم تُبنَ في عهد الأمويين حضارة حقيقية، إلا بعض المباني والزخارف الجميلة. بينما بلغت الحضارة الإسلامية أوجها في الدولتين العباسية والأندلسية، اللتين كانتا أقل تديناً من الدولة الأموية، على مستوى الدولة والأفراد.
لقد كان العامل الحقيقي الذي أدى إلى نشوء حضارة إسلامية هو الاستقرار السياسي، ثم النمو الاقتصادي، ثم الاستثمار المعرفي والإنساني، وهو ما لم يتأتَّ للدولة الأموية التي كانت متحفظّة جداً، دينياً ومعرفياً، فسادت مقولة «الإسلام يَجُبُّ ما قبله» واستعاض الناس بكونهم مسلمين عن البحث والعمل، وتم تأويل بعض تعاليم الدين بشكل خاطئ، فاستخدمت في قمع الحريات الشخصية والفكرية، وتجمّدت العقول وخبأت الأفكار، وأُهملت العلوم بمختلف أنواعها، فساد ترهل اجتماعي وفكري، وكثرت الفتن والقلاقل، وتزعزع استقرار الدولة. إلى أن انهارت دولتهم على أيدي العباسيين، الذين استبدلوا ذلك الحال بمقولة «الحكمة ضالة المؤمن» فانفتحوا على ثقافات العالم بعد أن وطّدوا الأركان السياسية للدولة، ورفعوا مقدّراتها المالية وعززوا اقتصادها. ثم نقلوا الفلسفة من الإغريق، والفن من الرومان، والأدب من الفرس، والرياضيات والطب من الهنود، وأُنشئت المدارس وأُكرم الفلاسفة والعلماء والأطباء، وانتشر العلم في جميع أنحاء الدولة. وفي كنف الدولة العباسية خرج معظم علماء ومفكري الإسلام من أمثال جابر بن حيان، وابن الهيثم، والخوازمي، والمسعودي، والجاحظ، والأصمعي، والفراهيدي، والطبري، وغيرهم حتى أصبحت دولتهم هي عاصمة الحضارة ومصدر النور الإنساني.
كل ذلك كان في عصور لم يُعرف فيها التدين، ولم يُنادَ فيها بالتدين بالطريقة التي نراها اليوم، حيث يستخدم هذا الخطاب الفضفاض، أحياناً، لإلغاء العقل النقدي واتهامه بالسفسطة والإلحاد أو الضلال، حتى يُحكِم أصحابه قبضتهم على المجتمع ويُحاصرونه بالتحريم والتحليل، فما كان حراماً قبل عام أصبح حلالاً اليوم، والعكس صحيح، وعندما يَسأل شخص ما عن هذه التحولات الغريبة، يُتهم بأنه يُجادل في مُسلّمات الدين!
إن ربط النهضة ومبادئ الحضارة بفكرة التدين هو تجنٍّ على التاريخ، وتهميش لدور العقل والمعرفة، حيث يجنح المجتمع في هذه الحالة إلى التركيز على ممارسة طقوس الدين، ويُهمل الاستثمار في الإنسان وفي البنى التحتية وفي الاقتصاد وفي التنمية البشرية، وفي غيرها من أُسس النهضة، وينكفئ على بعض الممارسات التي يعتقد بأنها كفيلة بمنحه النجاح في الدارين، ويزهد في الأعمال الإنسانية التي تساهم في إسعاد البشرية، وتُقلل من معاناتها.
فعندما نقول لشخص ما: «صلِّ لكي تنجح» فإننا نُجرّد الصلاة من معناها الحقيقي كشعيرة مقدسة تدعو إلى تهذيب النفس وتعززها بالقيم الأخلاقية، لنقولبها في ممارسة ضيقة (نجاح ورسوب)، وقد يصلي ولا ينجح، وقد لا يصلي وينجح.
ذكر الشيخ محمد الغزالي مرة أنه التقى صيدلياً مشغولاً ببحث قضية «صلاة تحية المسجد أثناء خطبة الجمعة»، فسأله لماذا لا ينصر الإسلام في ميدان الصيدلة ويدع هذا الموضوع لأهله! فالأمة مهزومة في ميدان الدواء، ولا تحتاج إلى فقهاء في أحكام الصلاة.
انظر إلى الكتب الدينية وستجد التالي: مختصر الكتاب الفلاني، ثم تهذيب نفس الكتاب، ثم مختصر التهذيب، ثم تهذيب التهذيب، ليقضي بعض شباب هذه الأمة حياتهم في قضايا مكررة، ويتركون القضايا التنموية المصيرية، فتنعدم الصلة بين الجهد وبين النجاح.
لا يجوز أن يدّعي من ينادي بالتدين بأن جميع الحلول البشرية موجودة في الدين، فالدين لم يوجد قوانين الطاقة، ولم يطرح حلولاً لمشكلات التصحّر، ولم يُعالج اختلال العرض والطلب في الأسواق، بل أتى ليضع نظاماً أخلاقياً ومنهاج حياة عامّاً، ثم على الإنسان أن يبحث ويتعلم ويعرف ويضع الأسس والنظريات التي تدفعه إلى التطور والتطوير، بما لا يتعارض مع تعاليم الدين.
إن مفهوم التدين الذي نراه اليوم يجعل معتنقيه أكثر تعصباً ورفضاً للآخر حتى وإن كانوا من بني جلدتهم، لأنه لا يدعو إلى محاولة فهم أسرار العلوم، ولا يحثّ على البحث في أنواع المعرفة المختلفة (غير العلم الشرعي)، ولا يضع النجاح والتميز في ممارسات حضارية مثل اختراع عقار يحارب مرض السرطان مثلاً، بل يحصر نجاح المرء في الإكثار من العبادة، والاستعداد إلى الآخرة. لقد كُنا نعاني من الطبقية الاجتماعية، واليوم أضفنا إليها الطبقية الدينية، فهذا متدين وذاك لا.
إن الأمة في حاجة إلى توحيد جهودها العلمية والمعرفية والاقتصادية والسياسية وكل ما من شأنه أن يعزز مبادئ التنمية الإنسانية التي تعد الركيزة الأولى لقيام أية حضارة، ولا يجوز تضخيم مفاهيم فردية، كالتدين، لتأخذ حيّز واهتمام المجتمع والدولة ووسائل الإعلام، فالتدين شأنُ فردٍ، والاتحاد شأنُ أمّة.
إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"العدد 3025 - الجمعة 17 ديسمبر 2010م الموافق 11 محرم 1432هـ
وجهة نظر في موضوعك هذا جميل والأجمل طرحك المسترسل
سلمت أنامل خطت هكذا موضوع
والآن سأتوجه إلى الفيسبوك تبعك لأقرأ ماذا وضعت في سيرتك الذاتية ؟؟
((كاتب إمارتي.............))،،،،ما هي ديانتك تذكرها أم لا
للتنويه ،، البعض يذكر ديانته في السيرة الذاتية ،،ولا أجد في ذلك إنتقاص لشخصه أو عيب في ذاته أو جهل في نفسه..
على العموم ،،،طرحك رائع