لقد اقتضت حكمة اللّه في خلقه أن جعل الناس مختلفين في ألوانهم وألسنتهم ومداركهم وتصوراتهم، ولكن اللّه جل شأنه لم يرد أن يكون هذا الاختلاف بين الناس مدعاة الى النزاع والشقاق، بل جعله دافعاً الى التآلف والوئام. وهذا ما يعبر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا) (الحجرات/ 13).
فهذه الآية الكريمة تلفت نظر الناس جميعاً الى حقيقة ثابتة لاجدال فيها وهي وحدة الاصل الانساني، ثم تبين أن اللّه أراد ان يجعل من ذرية آدم شعوباً وجماعات مختلفة: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولايزالون مختلفين الاّ من رحم ربك ولذلك خلقهم) (هود/ 118).
ولكن هذا الاختلاف - الذي هو حقيقة واقعة لا شك فيها - ينبغي أن يكون محرّكاً للناس نحو التعارف والتآلف كما تشير الآية الكريمة «لتعارفوا» وهذا التعارف من شأنه أن يكون مبنيا على الاحترام المتبادل والفهم المتبادل ومؤدياً الى التعاون المشترك فيما فيه خير الجميع.
وإذا كان هذا هو الحال بالنسبة للناس - كل الناس - على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وأديانهم وحضاراتهم، فمن باب أولى ينبغي أن يكون ذلك شأن الامة الاسلامية التي ينبغي عليها أن تضع ذلك في اعتبارها وفي مقدمة أولوياتها، فقد أراد اللّه لها أن تكون أمة واحدة (إن هذه أمتكم أمة واحدة) (الانبياء/ 92 )، تضم تحت جناحيها مختلف الشعوب التي تدين بالاسلام على رغم من تنائي الديار واختلاف الالسنة والالوان، فهذه أمة لها أهداف واحدة، تعبد ربا واحدا. ولها قرآن واحد لم يختلف عليه أحد من أبنائها، ولها قبلة واحدة يتجه المسلمون جميعا اليها في صلواتهم، وتهفو اليها أرواحهم في حجهم الى بيت اللّه الحرام. وفضلا عن ذلك فالجميع متفقون في أصول الايمان وأركان الاسلام، وفي كل ما علم من الدين بالضرورة.
ولكن طبيعة الامور تبين لنا أن لكل فرد ذاتيته وشخصيته المستقلة، والناس - كما سبق أن أشرنا - مختلفون في نواحي ظاهرية وأخرى باطنية.
ومن هنا، تختلف وجهات النظر فيما بينهم. وهذا أمر لا بأس به طالما ظل هذا الاختلاف محصورا في إطار الامور الفرعية القابلة للاجتهاد المشروع. ولا يجوز لمثل هذا الاختلاف أن تكون له آثار سلبية تتسرب الى قلوب المسلمين فتفسد تآلفها وتزرع فيها التناحر والتخاصم، والا أصبح الاختلاف شراً. وهذا ما حذر منه النبي (ص) حين قال: «لا تختلفوا فتختلف قلوبكم» ومن هنا ينبغي على المسلمين أن يجتمعوا على ما اتفقوا عليه وأن يعذر بعضهم بعضا فيما اختلفوا فيه.
واذا كان اختلاف وجهات النظر في الامور الفرعية أمراً جائزاً في إطار «مبدأ الاجتهاد» الاسلامي المشروع فليس هناك مبرر على الاطلاق لان تكون هذه الاختلافات الفرعية عقبة في طريق تحقيق وحدة الامة الاسلامية. فقد أمرنا أن نعتصم بحبل اللّه المتين (واعتصموا بحبل اللّه جميعاً ولا تفرقوا) (آل عمران/ 103). ونهينا عن أن نبدد جهودنا وطاقاتنا، لأن هذا لن يخدم الا أعداء الاسلام (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم)(الانفال/ 46).
وليس هناك مسلم مخلص لدينه يقبل أن يكون عنصرا يخدم أعداء الدين. ومن هنا ينبغي على عقلاء الامة وعلمائها أن يعملوا على توحيد الصفوف وبذل الجهود المتواصلة في سبيل إزالة العقبات التي تعترض طريق الامة نحو التقدم والازدهار.
ومن هذه العقبات تلك الآثار السلبية للخلافات المذهبية بين السنة والشيعة أو بين بعض الطوائف داخل إطار كل منهما. وقد آن الأوان لأن تختفي مظاهر هذا الخلاف التاريخي، وتزول عوامل النزاع والشقاق بين طوائف الأمة. ولسنا نقصد بذلك أن يتغلب مذهب على مذهب أو أن ينتصر فريق على فريق. فالقضية أكبر من ذلك بكثير، إنّها بالدرجة الاولى قضية الاسلام كدين وقضية الامة الاسلامية التي «تداعت عليها الامم كما تداعى الاكلة الى قصعتها» كما أخبر بذلك رسول اللّه (ص)، وكما هو واقع أمام أعيننا في عالم اليوم. فحقوق المسلمين في كل مكان مهدورة، وأعراضهم في مناطق كثيرة منتهكة، ودماؤهم تراق ليل نهار ظلما وعدوانا، وهم عاجزون عن فعل شيء غير الشجب والاستنكار والادانة.
ومن هنا فان المسلمين اليوم في أشد الحاجة - أكثر من أي وقت مضى - الى توحيد صفوفهم، وتنسيق جهودهم، ودفن خلافاتهم على جميع الاصعدة، لان قضيتهم في عصرنا الحاضر قضية مصيرية، هي أن يكونوا أو لا يكونوا.
وفي هذا الوقت الذي ألمحنا الى ما يحمله للمسلمين من أخطار، يسعدنا أن نرى جهوداً هادئة تبذل من جانب أناس مخلصين حريصين على المصلحة الاسلامية العامة، ويهدفون من وراء هذه الجهود الى تجديد جهود سابقة في سبيل التقريب بين المذاهب الاسلامية باعتبار أن ذلك يعد خطوة مهمة على طريق الوصول الى مجتمع إسلامي موحد في أهدافه وغاياته حتى نخرج بالامة الاسلامية من الجمود الذي يحيط بها من كل جانب على جميع المستويات.
وقد جاهد في سبيل قضية التقريب بين المذاهب الاسلامية - وبخاصة بين السنة والشيعة - العديد من كبار علماء المسلمين في القرن الحالي، وبذلوا في هذا الصدد جهودا عظيمة مشكورة. ومن بين هؤلاء الأعلام، المصلح الكبير محمد علي علوبة باشا والامام الشيخ محمد مصطفى المراغي والامام الشيخ مصطفى عبدالرازق. وقد كان لهذين الشخصين دور التشجيع المعنوي والتأييد العلمي. أما الامام الشيخ عبدالمجيد سليم فقد أسهم بكل طاقاته المادية والروحية في إنشاء جماعة التقريب، ودعا الى تأييدها بقلمه ولسانه، وأسهم معه في هذه الدعوة لفيف من كبار علماء الازهر. ونخص منهم بالذكر الامام الشيخ محمود شلتوت والشيخ على الخفيف والشيخ عبدالعزيز عيسى والشيخ محمد الغزالي والشيخ سيدسابق.
ومن بين من أسهم من جانب الشيعة الامامية إسهاماً بارزاً في هذا الصدد الشيخ محمد تقي القمي والامام الاكبر الحاج آقا حسين البروجردي، والإمامان الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء والسيدعبد الحسين شرف الدين الموسوي، وكلهم من كبار علماء الشيعة المعدودين. وقد قامت جماعة التقريب باصدار مجلتها المعروفة وهي «رسالة الاسلام»، واستمرت في الصدور فترة من الزمن ثم توقفت، كما توقف - للاسف الشديد - نشاط الجماعة ذاتها.
وقد أعطى الامام الراحل الشيخ محمود شلتوت شيخ الازهر لدعوة التقريب بين المذاهب الاسلامية دفعة كبيرة. فقد كان من أشد المتحمسين لها. وفي ذلك يقول (رحمه الله): «إن دعوة التقريب هي دعوة التوحيد والوحدة، هي دعوة الاسلام والسلام... لقد آمنت بفكرة التقريب كمنهج قويم وأسهمت منذ أول يوم في جماعتها وفي وجوه نشاط دارها بأمور كثيرة... ثم تهيأ لي بعد ذلك، وقد عهد إليّ بمنصب مشيخة الازهر، أن أصدرت فتواي في جواز التعبد على المذاهب الاسلامية الثابتة الأصول، المعروفة المصادر، المتبعة لسبيل المؤمنين، ومنها مذهب الشيعة الامامية الاثنا عشرية، وقرّت بهذه الفتوى عيون المؤمنين المخلصين الذين لا هدف لهم الا الحق والالفة ومصلحة الأمة، وظلت تتوارد عليّ الاسئلة والمشاورات والمجادلات في شأنها وأنا مؤمن بصحتها، ثابت على فكرتها، أؤيدها في الحين بعد الحين فيما أبعث به من رسائل للمستوضحين، أو أردّ به على شبه المعترضين، وفيما أنشئ من مقال ينشر أو حديث يذاع أو بيان أدعو به الى الوحدة والتماسك والالتفاف حول أصول الاسلام ونسيان الضغائن والاحقاد. حتى أصبحت - والحمد للّه - حقيقة مقررة تجري بين المسلمين مجرى القضايا المسلمة بعد أن كان المرجفون في مختلف عهود الضعف الفكري والخلاف الطائفي والنزاع السياسي، يثيرون في موضوعها الشكوك والاوهام بالباطل. وها هو ذا الازهر الشريف ينزل على حكم هذا المبدأ، مبدأ التقريب بين أرباب المذاهب المختلفة، فيقرر دراسة فقه المذاهب الاسلامية سنيها وشيعيها دراسة تعتمد على الدليل والبرهان وتخلو من التعصب لفلان وفلان».
وقد نقلنا هذا النص رغم طوله ليعلم أبناء الجيل الحاضر كيف كان أسلافهم القريبون يعملون جادين مخلصين في هذا السبيل من أجل المصلحة الاسلامية، وهذا يلقي على كاهل أبناء الجيل الحالي مسئولية مواصلة المسيرة وعدم التقاعس عن أداء واجبهم في هذا السبيل، إذ من الضروري أن يكون هناك استمرارية في العمل وتواصل في الجهود بين الاجيال. فالأمر الذي يؤسف له أن التيارات السياسية قد عصفت في الفترة الاخيرة بكثير من المشروعات الثقافية والدينية المشتركة بين المسلمين. وبذلك تبددت أو تنوسيت جهود هؤلاء العلماء السابقين.
ومن هنا فاننا نحيي هذه الجهود المخلصة لإحياء هذه الدعوة من جديد، وإعادة نشر طائفة من البحوث التي سبق أن أصدرتها دار التقريب بين المذاهب الاسلامية، فهذا من شأنه أن يجدد الأمل في النفوس فتنطلق همم المسلمين لتواصل السير على درب الاسلاف لنصل بأمتنا الى ما فيه عزها ومجدها. والسلسلة المزمع إصدارها تعد خطوة متجددة على الدرب الذي سلكه الأسلاف، نأمل أن تتبعها خطوات أخرى علمية وعملية لإحياء الآمال في إعادة بناء وحدة الأمة. وبذلك نشد من إزر بعضنا بعضا، ونقوّي أواصر القربى والتلاحم فيما بيننا «فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا».
وبذلك أيضا نستطيع أن نخطو بخطى ثابتة نحو تحقيق الأهداف في العزة والرقي والتقدم لتحقيق الوعد الالهي الذي تعبر عنه الآية الكريمة: (وعد اللّه الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمنا)(النور/ 55).
العدد 3024 - الخميس 16 ديسمبر 2010م الموافق 10 محرم 1432هـ
• بهلول •
زائر رقم 1 :
لا فُضٍ فوك ... هكذا نبني الأمل و نشيد المستقبل
لا زالت الأمة بخير لكن
لا زالت الأمة الاسلامية بخير ففيها من الرجال المخلصين مالا يحصى عددهم لكن رجال السياسة هم الداء وطالبي الملك هم من يتاجر بهذه القضية ومن ورائهم ما تعلم من دول حاقدة وعدوة للانسانية ولكن لن يطول الزمان ويتحقق ما تنشده الأمة ورجالها المخلصون وبوادر الخير تظهر كل يوم الابعض من المنغصات من هنا وهناك التي يفتعلها الحاقدون على بني البشرية ...أنظر الى الجانب الاخر تجد ما يسرك وبالطبع يحزن الاخرين ...