مخاطر التقسيم التي تهدد ثلاث دول عربية (السودان، العراق، واليمن) يمكن ان تتحول إلى آليات تتحرك ذاتياً لدفع التأزم السياسي في منطقة «الشرق الأوسط» إلى حال من الانشطار الأهلي الذي ينتج دويلات صغيرة داخل القطر الواحد. خطورة التقسيم يكمن في توالده وليس في تموضعه لأنه يفتح الباب امام مزيد من الاستقطاب الداخلي والانكفاء إلى الهوية الضيقة بوصفها البديل الموضوعي عن مظلة دولة غير قادرة على تلبية حاجات المواطن ومتطلباته المعاشية واليومية.
هذا الاحتمال ليس مستبعداً في حال توافرت له المسببات المحلية والغطاء الدولي - الإقليمي. فالظروف الداخلية التي تؤمِّن الذرائع للانفصال موجودة في معظم الأقطار وهي تتخذ في كل دولة شكلاً ينسجم مع طبيعة التكوين الفسيفسائي الأهلي. البلدان التي تنقسم دينياً تنشأ فيها مطالبات بحكم ذاتي للأقلية من لون واحد. والبلدان التي تنتمي إلى دين واحد تنشأ فيها مطالبات بحكم ذاتي للطائفة من لون واحد. والبلدان التي تعيش فيها كتلة بشرية موحدة في الدين والطائفة تنشأ فيها مطالبات بحكم ذاتي للقبيلة.
التقسيم ليس موحداً إلا في الشكل. والاجزاء منشطرة في كل قطر بحسب التنوع الذي تتألف منه الوحدة. في السودان مثلاً تختلف فيه دوافع الدعوة للانفصال عن ذلك التقسيم القبلي - المناطقي الحاصل في الصومال. والانشطار الأهلي الواقع عملياً منذ تسعينات القرن الماضي في الصومال يختلف عن دعوات الانفصال التي يطالب بها «الحراك الجنوبي» في اليمن أو الجماعة الحوثية في صعدة (الشمال). كذلك تختلف متطلبات التقسيم في اليمن عن الواقع عملياً في العراق.
كل دعوة تقسيمية تعتمد على حيثيات مغايرة للأخرى. في العراق تستند الفكرة على الانشطار الجغرافي - المذهبي في الجنوب الشيعي في غالبيته عن الوسط والغرب السني في غالبيته. بينما يطالب الاكراد (السنة) في الشمال بحق تقرير المصير تمهيداً للانفصال الجغرافي - الاقوامي عن العرب (السنة والشيعة) في الدولة العراقية. في اليمن تبدو مظاهر التقسيم الجغرافي مختلطة بالقبيلة والمذهب أو الطائفة بالمنطقة ما يعزز فكرة احتمال انشطار البلاد «السعيدة» إلى دويلات غير واضحة الهوية على غرار ما هو حال العراق.
السودان أيضاً غير متشابه في تكوينه الأهلي عن العراق واليمن لذلك تتمظهر دعوات التقسيم في حالات متغايرة تختلط فيها القبيلة باللون بالثقافة بالدين وأخيراً بجغرافية مناطق تتعايش في وسطها مجموعة أنماط من المعاش تتراوح بين الاستقرار والترحال.
تنوع دعوات التقسيم وعدم توافقها الا في الشكل يؤكد في النهاية على مسألة مشتركة تتمثل في ضعف «الدولة الوطنية» وعدم قدرتها على تشكيل مظلة (هوية) جامعة تشد الأطراف إلى المركز وتوحد التنوع في بيئة (وعاء) يضمن التعايش والمساواة في نطاق دولة دستورية تعتمد القانون مصدراً وحيداً للسلطات.
مشكلة الدولة الوطنية المعاصرة انها لم تكن وطنية أو معاصرة من حيث التزامها الدستور واعتمادها القانون للفصل بين السلطات وتحديد شروط المواطنة (الحقوق والواجبات). وأدى لجوء الدولة «الحديثة» إلى الأعراف للحكم أو الانتماء لجهة أو الانحياز لفئة أو الحزب الواحد أو العائلة الواحدة إلى اعطاء ذرائع للقوى المتضررة من التسلط بان تذهب إلى الخيار المضاد وتبدأ البحث عن بدائل تقوض وحدة الدولة (غير الموحدة أصلاً) من خلال دعوات الارتداد إلى الحلقات الضيقة والانكفاء إلى الهويات الصغيرة بوصفها تشكل قوة حماية تعوض الخسائر الناجمة عن الانفراد الدائم بالحكم.
هذا النوع من النكوص التقهقري للجماعات الأهلية تتحمل الدولة الوطنية مسئولية اظهاره من الباطن إلى العلن لانها تعاملت مع السلطة وتوابعها بعقلية استأثرت بالموارد واحتكرت استخدام الثروة في التوزيع والتنمية. ولكن هذه السياسة الانقلابية على الدولة والمجتمع لا تبرر بالضرورة اللجوء إلى اسوأ الاختيارات للتهرب من المسئولية المشتركة. فالمطالبة بالانفصال والتقسيم والتشرذم لا يمكن أن تشكل ذلك الرد التاريخي المتقدم على تحديات عصر يحتاج إلى انفتاح الحدود وحرية الانتقال وتوحيد الموارد وتوسيع السوق.
لذلك يرجح ان تشكل دعوات الانفصال والتقسيم مجموعة انفعالات أهلية سيكون مردودها سلبياً على الكل والجزء في آن باعتبار ان مسار الدويلات سينتهي إلى عزلة ذاتية لا تنتج سوى المزيد من الاصطراع الداخلي في الأقطار والأقاليم.
إلى ذلك هناك العامل الخارجي الدافع نحو التقويض. فهذا العامل لا يمكن إسقاطه من المعادلة منذ ان انهارت السلطنة العثمانية في الحرب العالمية الأولى وما رافقها من تفكك مظلتها الإقليمية وتوزع جغرافيتها السياسية على الانتداب البريطاني - الفرنسي الذي اقدم على تشطير بلاد الشام إلى دول حدد خطوطها سايكس وبيكو (وزيرا خارجية بريطانيا وفرنسا).
اطلق مشروع التشطير تحت المظلة الأوروبية سلسلة دعوات قومية (انفصالية) في مطلع القرن الماضي فظهرت هويات تطالب بالفرعونية والنوبية والنيلية والقبطية والآشورية والسريانية والكنعانية والفينيقية وغيرها إلى جانب دعوات وحدوية مضادة بدأت بالجامعة الإسلامية والاتحاد المتوسطي والمستطيل العربي والهلال الخصيب والمغرب العربي وانتهت أخيراً بتأسيس الجامعة العربية التي حافظت على اشكال الدول كما صنعتها أو تركتها أوروبا عشية خروجها العسكري من منطقة «الشرق الأوسط».
التقسيمات الموروثة عن العهد الأوروبي نجحت نسبياً في الصمود على حالها ولكنها فشلت في التقدم باتجاه توسيع صيغة الجامعة الى اتحاد. والنجاح النسبي (باستثناء الصومال) الذي استمر يصعد ويهبط طوال 90 سنة في بعض البلدان و50 سنة أو 30 سنة في بلدان أخرى بدأ يتعرض الآن إلى اهتزاز بنيوي بعد تدخل القوى الأجنبية في حرب الخليج الثانية (1990 - 1991) واحتلالها العراق في حرب الخليج الثالثة.
سياسة التقويض التي اعتمدتها واشنطن منذ العام 2003 تشبه في قانونها العام تلك الاستراتيجية الأوروبية التي صاغتها فرنسا وبريطانيا بعد الحرب العالمية الأولى وأدت الى نشوء دول عربية مستقلة في نهاية الحرب العالمية الثانية بالتجاور مع نكبة فلسطين وتأسيس «إسرائيل». هذا التشابه في القانون العام لا يعني انه يتطابق في آلياته الخاصة.
المشروع التقويضي الأميركي يختلف عن استراتيجية التقسيم الأوروبية في حركته الذاتية فهو لا يستهدف اعادة النظر بخريطة الشرق الأوسط (رسم حدود جديدة) بقدر ما يتطلع إلى اعادة هيكلة الشرق الأوسط (رسم علاقات جديدة بين الجماعات الأهلية) تحافظ على شكل الصورة وتعيد ترتيبها من الداخل كما هو حاصل الآن في العراق (دولة فيدرالية).
الا ان خطة التقويض الذاتية تصطدم بالواقع الموضوعي وتداخل تنويعاته كما هو حال السودان والصومال ما يعني خروج الفائض الأهلي عن الحدود السياسية المرسومة سلفاً للبيئات الجغرافية والذهاب بعيداً باتجاه التقسيم لا إعادة الهيكلة (فرز سكاني). ومثال جنوب السودان في مطلع السنة المقبلة قد يشكل عينة ميدانية عن مسار تقهقري يتجاوز نطاق ردة فعل على فشل الدولة الوطنية المعاصرة. فالانفصال قد يندفع آلياً باتجاه أقصى التطرف حتى يتناسب مع حال الانشطار الأهلي وتشرذمه إلى هيئات صغيرة تقوم على القوة لا الفعل ما يشكل خطوة نحو المزيد من توالد دعوات التقسيم التي تتوافق في الشكل وتتعارض في الجوهر.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 3023 - الأربعاء 15 ديسمبر 2010م الموافق 09 محرم 1432هـ