ترجح مختلف الاستطلاعات احتمال انفصال الجنوب عن السودان وتشكيل دولة مستقلة عاصمتها جوبا. المشكلة الآن ليست في الانفصال الذي باتت حكومة الخرطوم على قناعة بحصوله وإنما في المضاعفات المترتبة عنه. فهل تمر الخطوة بسلام وتنتقل الدولة الجديدة إلى التأقلم في محيطها والتعايش مع السودان أم أنها ستدفع العلاقات الثنائية إلى التأزم وإشعال حرب حدود معطوفة على اقتتال أهلي بين قبيلة المسيرية العربية وقبيلة الدينكا نقوك في إقليم أبيي؟
المؤشرات المرصودة تذهب إلى ترجيح فرضية العنف لكون الاختلاف لا ينحصر في «حق الشعوب في تقرير مصيرها» وإنما في مصير الشعوب بعد تقرير حقها. والاختلاف عادة على الحق يجرجر الشعوب إلى الاقتتال لتقرير المصير. وهذه الصورة الداكنة للوضع في السودان تعكس في النهاية طبيعة النسيج الاجتماعي الذي تتكون منه الجماعات الأهلية. والنسيج في تركيبه الفسيفسائي الملون من أجناس وأعراق وقبائل وثقافات وأنماط معاش تتراوح بين الاستقرار والترحال وبين الزراعة والرعي يتضمن صواعق تفجير تضع أعالي وادي النيل على كف التقسيم.
هذا التنوع في تكوين السودان المعطوف على انتماءات جهوية وولاءات عابرة للحدود وهويات صغيرة محكومة بتقاليد محلية، شكل سابقاً عقبة في مسار التوحيد ويرجح أن يلعب دوره الآن في تعطيل إمكانات التقسيم من دون عنف. فالتنوع القائم في السودان تاريخي ويتوالد زمنياً بحكم المصاهرة والتنقل ما أدى جغرافياً إلى تداخل مصالح الولايات بسبب طبيعة غنى الأرض بالمياه أو بسبب حاجات الناس إلى بعضها.
التداخل ضمن التنوع أعطى وظيفة لكل جماعة أهلية ما ساهم أحياناً في تفجير خلافات مسلحة وأحياناً أخرى في تشكيل اتفاقات وتعهدات تضمن توزيع مصادر المياه وحرية الارتحال وحق الرعي في المناطق الخصبة. وبحكم تراكم العادة تحولت هذه التفاهمات الشفهية إلى تقاليد يصعب تجاوزها بسهولة ومن دون الانزلاق نحو العنف.
الانفصال في حال تم إقراره في مطلع السنة المقبلة قد يكون خطوة في إطار حركة تشرذمية تؤطر الانقسامات المتوارثة في هياكل سياسية متضاربة في مصالحها المحلية. وهذا الأمر في حال حصل سيؤدي إلى تفريع الأزمة السودانية ونقل التعارض بين الحكومة المحلية في الجنوب والحكومة المركزية في الشمال إلى تضادات بين حكومة جوبا المستحدثة والقوى المحلية التي تتشكل منها «الدولة المستقلة».
انتقال الأزمة بين المركز والأطراف إلى اقتتال محلي بين الأطراف والأطراف سيرفع من درجة الاحتقان وربما يؤدي إلى نهوض حركات ارتدادية تتراوح بين دعوة للعودة إلى الوحدة مع الشمال وبين دعوات تطالب بنشر ثقافة الانفصال وإعادة رسم خريطة السودان بما يتوافق مع تلك الصورة الفسيفسائية التي تعني نشوء عشرات الدويلات المشابهة لتلك التي استقلت في الجنوب.
مشكلة السودان لن تتلاشى وتضمحل سلمياً بعد إعلان انفصال الجنوب وإنما يحتمل أن تكون بمثابة حجر الدومينو الذي إذا سقط الأول تساقطت خلفه عشرات الأحجار إلى أن تهدأ الحركة على أنقاض المجموع العام. وهذا الاحتمال ليس مستبعداً إذ أشارت إليه تقارير منظمات دولية تابعة للأمم المتحدة تعمل في الجنوب وتصريحات كبار المسئولين في الولايات المتحدة والخرطوم وجوبا وأبيي ودارفور.
انفصال الجنوب ليس حلاً ولا نهاية مشكلة متراكمة لأنه يقع في أرض خصبة بالتناقضات الملونة بقوس قزح من الجماعات الأهلية المتجاورة والمتشابكة ميدانياً. وهذا التداخل في التنوع عطّل سابقاً الوحدة (الاتحاد) وسيساهم في الطور الراهن في عدم تسهيل مهمة الانفصال نظراً لصعوبة تفكيك المصالح من دون قهر فئة أو التمييز ضد فئة أو استبعاد أخرى عن المشاركة أو التصويت في «حق الشعوب في تقرير المصير».
الواقع السوداني تاريخي - جغرافي وليس جديداً وهو يعود إلى زمن غابر سابق للاستعمار الحديث. بريطانيا لم تختلق الأقوام والقبائل والألوان والثقافات والعصبيات، فهي كانت موجودة قبلها بقرون، ولكنها استغلتها وتلاعبت بها واستفادت منها واستخدمتها لتعزيز التفرقة والكراهية حتى تضمن لوجودها وحكمها مدة أطول.
الانتداب البريطاني ليس نزيهاً كما يقال بل إنه تعمّد منذ العام 1902 عزل الجنوب عن الشمال حين اشترط على المبادلات التجارية أن تستخدم الإنجليزية لغة في التخاطب ومنع تجار الشمال من اعتماد اللغة العربية في التعامل اليومي وفتح الباب أمام بعثات التبشير لنشر المذهب الانغليكاني لفصل ثقافة الناس عن المحيط الجغرافي وجعلها غريبة عن البيئة الجامعة لسكان المناطق. كذلك ابتدع الانتداب في العام 1922 ما أطلق عليه «قانون المناطق المقفلة» الذي وضع الحواجز بين المناطق والولايات وبرر نهوض سلطات محلية (حكم ذاتي) تمارس صلاحيات خاصة في الأقاليم تفصلها عن المركز. وأدى هذا التفصيل إلى نمو نزعات انفصالية تعتمد على قوى محلية تطالب بتكوين حكومات مستقلة تتمتع بصلاحيات استثنائية أعلى من القوانين الاتحادية.
هذه المقدمات التاريخية التي بدأ بتأسيسها الاحتلال البريطاني تشبه كثيراً تلك السياسات والقوانين التي اعتمدها الاستعمار الأوروبي (الفرنسي، الهولندي، البلجيكي، الإسباني، البرتغالي، الإيطالي والانجليزي) في آسيا وإفريقيا حين أخذ يستخدم العصبيات القديمة والمتوارثة كتشيكلات سياسية يمكن توظيفها في دفع العلاقات الأهلية إلى مزيد من التفكك أو التصادم. فهذه الدول الأوروبية لم تخترع الانقسامات ولكنها نجحت في تحويلها من تعارضات طبيعية عفوية إلى تناقضات عنيفة في تعاملها اليومي سواء على مستوى التبادل التجاري أو على صعيد التنافس على المناطق الخصبة للرعي أو في إطار الممرات الطبيعية للارتحال والانتقال بحثاً عن الرزق أو مساقط المياه.
مشكلة السودان مركبة وليست بسيطة وهي تحتاج إلى آليات أخرى غير الانفصال حتى تستطيع التحكم بالأزمات العنقودية ومنعها من الانفراط وتدحرج كراتها من دارفور في الغرب إلى الاستوائية وبحر الغزال وأعالي النيل في الجنوب إلى كردفان من الشمال والغرب وصولاً إلى كيسان وكسلا في الشرق. وهذه الآليات لابد أن تبدأ منظومتها بالعمل من أبيي حتى تكون فاعلة ميدانياً باعتبار أن هذه المنطقة ستكون بمثابة صاعق التفجير بين المسيرية العربية والدينكا الإفريقية في حال فشلت الأطراف المعنية في التوصل إلى اتفاق يضمن حق الجميع في التصويت، ويعطي أفضلية للاتفاقات والتعهدات القديمة على تلك التقسيمات التي قد يسفر عنها الاستفتاء وما سيخلفه من مضاعفات أهلية وارتدادات دموية.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 3022 - الثلثاء 14 ديسمبر 2010م الموافق 08 محرم 1432هـ
اضواء المدينة
التقسم افضل للجنوبيين يكفي اطهاد وتهميس لهم :: هذا حال الدول العربية لازم تطهد فئة معينية واذا اتى التقسيم تتباكي الدول العربية وتدعى القومية ؟؟