أعلن إسماعيل هنية، الزعيم السياسي الكبير في حماس الأسبوع الماضي التزام حركته باحترام «أية صفقة سلام» مع إسرائيل يوافق عليها استفتاء فلسطيني. واصل هنية، معرباً عن رغبة حماس بأن تكون «جزءاً من الحل وليس المشكلة»، واصل القول بالتزام حماس بإنشاء «دولة فلسطينية قادرة على البقاء ذات سيادة كاملة على الأرض... التي احتلت العام 1967».
تعتبر تصريحات كهذه بالتأكيد ثورية بالنسبة لحركة دينية الطرح ولكنها سياسية التحفيز، عُرِف عنها رفضها التاريخي لجميع اتفاقيات السلام ودولة إسرائيل وأية تسوية من أي نوع. ومما لا يثير الاستغراب أن الإسرائيليين رفضوا بشكل تلقائي تصريحات هنية، مشيرين إلى أنه لو أرادت حماس السلام، كان يتوجب عليها أن تفعل ذلك عندما كانت تمثل الناخبين الفلسطينيين الموحدين بعد انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني في يناير/ كانون الثاني العام 2006. يتجاهل رد الفعل حيال خطاب هنية، والذي يعكس المنظور السائد بأن حماس لم تقم بأية حركة نحو المزيد من الاعتدال، يتجاهل وجهات نظر معمقة حاسمة وتوجهات تجريبية ظهرت أثناء الفترة القصيرة من الوقت عندما كانت حماس منخرطة بشكل تام في السياسة الفلسطينية.
وبالطبع، وأثناء الفترة التي شكلت حماس فيها حكومة تمثل الشعب الفلسطيني الذي كان يومها موحداً، بدأت تجربة مذهلة ذات معانٍ ضمنية عميقة محتملة تجاه السلام تظهر بشكل تدريجي. وقد وفرت هذه التجربة احتمالات حل جدل قديم قِدَم الزمان، يتعلق بقوة الانخراط السياسي لتحويل الحركات التي تدفعها الأيديولوجية ذات الماضي الإرهابي إلى براغماتيين على استعداد للوصول إلى حلول وسطى قادرين على حل النزاعات سلمياً وسياسياً. ورغم أن تجارب اتفق على كونها تشكل مخاطرة أثمرت ثمارها في الماضي، مثل «منظمة التحرير الفلسطينية والجيش الجمهوري الأيرلندي والمجلس الوطني الإفريقي ضمن غيرها، فإن قلة هم الذين كان لهم إيمان بأن تحولاً كهذا يمكن أن يكون صفة لحماس الفلسطينية، وهي حركة لها ماضٍ عنيف وميثاق مكرس لفناء إسرائيل. إلا أن توجهات معينة مفعمة بالأمل برزت خلال فترة 16 شهراً تقريباً، تبدو عند النظر إليها عن كثب أنها تؤكد وبقوة الأثر الداعي إلى الاعتدال، بل وحتى العلمانية، للسياسة على الحركات العنفية التي يدفعها الدين.
يستطيع المرء قياس تحوّل حماس الاستباقي في نهاية المطاف من خلال دراسة ردودها على مطالب اللجنة الرباعية الثلاثة: الاعتراف بإسرائيل ونبذ العنف وقبول الاتفاقيات المتفاوض عليها مسبقاً. ورغم أن مطالب كهذه تتطلب من حماس ليس فقط نبذ الأهداف ذاتها التي تأسست من أجلها، وإنما رفض ما اعتبرته تكليفاً دينياً، إلا أنها حققت تقدماً مهماً باتجاه كل من هذه المطالب، رغم أنها لم تذهب إلى درجة إرضاء اللجنة الرباعية.
اخترق مطلب الاعتراف بإسرائيل إلى قلب تكليف حماس بإنشاء دولة فلسطينية وإزالة إسرائيل من الوجود. إلا أنه في أعقاب نصر حماس الانتخابي وفي مواجهة ضغوطات عالمية شديدة، عرضت حماس العديد من التنازلات الجدلية التي لم يسبق لها مثيل في تاريخ العلاقات بين حماس وإسرائيل. وبالطبع، وفي أول اعتراف علني بعلاقة مع الدولة الإسرائيلية، أعلن إسماعيل هنية لدى تسلمه منصب رئيس الوزراء في السلطة الوطنية الفلسطينية التزامه بالحفاظ باحترام على «جميع الاتصالات في جميع القضايا الدنيوية اليومية مثل الأعمال والتجارة والصحة والعمل مع الدول الإسرائيلية». وقد تبع ذلك وبسرعة سلسلة من التنازلات الأخرى التي لم يسبق لها مثيل: اتفاقية للسماح للرئيس محمود عباس إجراء مفاوضات مع إسرائيل نيابة عن الحكومة بقيادة حماس، ووعد بِـ «احترام» الاتفاقيات الدولية السابقة مع إسرائيل، وبيان نشر على موقع حماس الإلكتروني يؤكد أنه «لا يوجد منع ديني ضد التفاوض مع إسرائيل»، وهو إعلان بأن «الشعب الفلسطيني» (وليس حماس) هو الذي يجب أن يقرر مصير ومدى العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية، وكذلك، فيما وصل إلى أقرب مستويات الاعتراف المطلق، تأكيد «الواقع الجغرافي السياسي» لدولة إسرائيل، التي أقسمت حماس على «التعايش بسلام معها» تحت شروط معينة.
وقد حدث تحول مماثل فيما يتعلق بالتزام حماس بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي باستخدام كافة الأساليب الضرورية، بما فيها العنف، وهو ما يثير الانتباه. استمرت حماس بالتأكيد باعتناق هذا «الحق الأساسي» خلال فترة التكامل السياسي. إلا أنه تم تعديله إلى مستوى لم يسبق له مثيل. شجب أعضاء منتخبون في حماس، بمن فيهم يحيى موسى، وبشكل علنيّ التفجيرات الانتحارية على أنها أمر عفا عليه الزمن، متأصّل في اليأس وغير مناسب «للعهد الجديد». وتكلم مرات عديدة عن الحاجة لتجنّب الاستفزازات وضرورة احترام وقف إطلاق النار، وبشكل أعمّ، الحفاظ على السلام وتجنّب النزاع. وأخيراً، وبينما رفضت حماس التنازل عن حقها في المقاومة المسلّحة، أكّد الزعماء السياسيين علناً أن أشكال المقاومة العنفية كانت الخيار الأخير، ويجب عدم استخدامها إلا بعد نفاذ جميع الإستراتيجيات السلمية الأخرى، كالهدنة والتهدئة والسياسة الانتخابية.
أما فيما يتعلق بقبولها لاتفاقيات السلام المتفاوض عليها مسبقاً، والتي يعتبرها ميثاق حماس «رهيبة ومضيعة للوقت»، (المواد 13 و32) فقد قامت حماس بخطوات مماثلة نحو الاعتدال والحلول الوسطى. وفي الوقت الذي رفضت فيه قبول جميع الاتفاقيات السابقة بشكل عام، عدّلت حماس وبشكل كبير موقفها التأسيسي، معبرة شفهياً وخطياً أن اتفاقيات كهذه يجب أن تعامَل بِـ «مسئولية وطنية كبرى» و»واقعية مطلقة» بل وحتى، في نهاية المطاف، «الاحترام» الكامل والواضح والصريح. وقامت حماس، مقتربة أكثر من القبول الكامل من أي وقت مضى، وبشكل رسمي بترميز هذا «الاحترام» للاتفاقيات الماضية في اتفاقية مكة المكرمة التي أشرفت عليها المملكة العربية السعودية في فبراير/ شباط 2007.
لقد غطى توجه اللجنة الرباعية تجاه حماس على شكل «كل شيء أو لا شيء» على التقدم الهائل الذي أظهرته حماس أثناء فترة التكامل السياسي التي مرت بها. لسوء الحظ أن توجهاً كهذا ساهم بشكل كبير في انفجار العنف داخل المجتمع الفلسطيني وتراجُع احتمالات السلام. إلا أن ظهور حماس أكثر اعتدالاً ومهادنة ومرونة أيديولوجية، بغض النظر عن تدريجيته وكونه مبدئياً، خلال تلك الفترة القصيرة، يناقش وبقوة لصالح سياسة تشجيع مشاركة حماس السياسية داخل السياسة الفلسطينية بدلاً من مقاومتها.
* تدرس حالياً للحصول على شهادة الدكتوراه بجامعة جورجتاون، حيث تشغل منصب زميل بمركز جيل هوبر كمقيمة. وقد عملت مستشارة خاصة للشئون الدستورية والتشريعية لوزارة الخارجية الأميركية في بغداد بالعراق العامين 2008 و2009، ودرّست كعالمة زائرة بكلية ويليام وماري في الأعوام 2009 - 2011. هذا هو المقال الثاني من سلسلة حول السياسة والتفسير الديني ومعانيه الضمنية في النزاع العربي الإسرائيلي، وينشر بالتعاون مع «كومن غراوند».
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 3022 - الثلثاء 14 ديسمبر 2010م الموافق 08 محرم 1432هـ