تتحدث النصوص الدينية اليهودية كالميشنا والحلاشا وكذلك التلمود والأدبيات اليهودية جميعها، عن مبتكرات قانونية من جانب الحكماء، تناقض القانون التوراتي، الذي ينص على أنه يتوجب على الشخص أن يعيد ما أخذه عن طريق السرقة إلى أصحابه الأصليين (سفر اللاويين 23,5). وينصّ هذا القانون، الذي يدعى كذلك «قانون التعويض»، أنه رغم كون الشخص الذي يستخدم عموداً مسروقاً لبناء بيته غير مضطر لتدمير البناء الذي بناه ليعيد العمود المسروق إلى صاحبه الأصلي، فإنه يتوجب عليه تعويض صاحب العمود على الضرر الذي تسبب به.
وكما يقترح تعبير «تعويض»، فإن هدف حكمائنا من الموافقة على هذا القانون كان إبراز أهمية تمكين الشخص الذي يرغب بأن يتوب أن يفعل ذلك. بغض النظر، يتوجب على المرء أن يفترض أن «التوبة» لا يمكن أن تكون كاملة ما لم يعترف سارق العمود أنه سرقه ويعتذر ويعترف بمشاعر الطرف الذي تعرض للأذى والخسارة.
ويجسّد القانون الرسالة بأنه من الضروري تحقيق التوازن بين مبدأ العدالة من ناحية والاعتبارات المتعلقة بالحقائق على الأرض من ناحية أخرى، حتى عندما تكون الحقائق قد وُجدت عبر عمل من أعمال الظلم والتجنّي.
من المثير للاهتمام استكشاف كيف يمكن تطبيق هذا القانون في النزاعات السياسية والحدودية.
خذ على سبيل المثال قضية «حق العودة». يمكن فهم مطالب الفلسطينيين بالعودة إلى البيوت التي تركوها العام 1948 داخل حدود إسرائيل، عند النظر إليها من وجهة نظرهم حول ما يشكل عدالة مطلقة. إلا أن تطبيق ذلك سوف يترتب عليه انزاح المقيمين الحاليين عن بيوتهم، وهو أمر لا يمكن حتى التفكير به. في هذه الحالة، وإلى جانب الاعتراف بمعاناة هؤلاء الذين أُرغِموا على ترك منازلهم، يجب وضع شروط لتعويضات مناسبة. وبالمثل، من غير المعقول توقع طرد سكان الشيخ جراح في القدس الشرقية من منازلهم، وهو أمر رأيناه بشكل متزايد في الشهور الأخيرة، حتى ولو كانت هناك أُسَر يهودية تستطيع إثبات أنها كانت تملك هذه البيوت قبل العام 1948.
ربما، إذا استطاع الجمهور اليهودي الإسرائيلي التخلّي عن مخاوفه الوجودية من فقدان وطنه (أرضه) فقد نتمكن من إدراك مسئوليتنا عن معاناة الفلسطينيين ونفكِّر بأساليب مناسبة لتعويضهم.
في الوقت نفسه، يتوجب علينا كذلك أن نفهم أنه من وجهة نظر مستوطني غوش قطيف، وهؤلاء الذين يؤمنون بإسرائيل الكبرى، يفترض القانون اليهودي أن «العدالة المطلقة» لا تسمح بِـ «اجتثاث اليهود من بيوتهم». إلا أن حكومة منتخبة ديمقراطياً، وبدعم من معظم أعضاء الكنيست، قررت اتباع خطة فك الارتباط التي فرضت على جميع هؤلاء الناس ترك منازلهم. ورغم أنه قد يكون من المستحيل تعويض المستوطنين الذين تم اجتثاثهم لما يرون أنه تقويض للعدالة المطلقة، يتوجب فعل كل شيء لضمان أن يحصلوا على تعويض ملائم يسمح لهم بإعادة بناء حياتهم ضمن حدود إسرائيل. وبالإضافة إلى التعويض المالي، هناك حاجة لفهم مشاعر المستوطنين بالظلم عند إصدار الأوامر لهم بترك منازلهم دون رغبتهم، حتى من جانب هؤلاء الذين يعتقدون أنه ما كان يتوجب عليهم الاستيطان هناك منذ البداية.
أعتقد أن قانون التعويض في مفهومة الواسع يستطيع أن يوازن «العدالة المطلقة» لكل جانب، مع إمكانية تعايش سلمي. يتوجب علينا الاعتراف بحقيقة أنه من منظور الشعب الفلسطيني، تُعتبر أرض فلسطين بمجملها أرضاً مسروقة، تماماً كما يعتَبِر أتباع إسرائيل الكبرى جميع أجزاء إسرائيل التي لم يتم «تخليصها» بعد، مسروقة من قبل العرب.
الشرط الأول للتعايش إذاً هو الاعتراف بوجهة نظر الطرف الآخر وافتراضاته الأساسية. إن الشعور المعمّق بمعاناة الطرف الآخر أمر ضروري إذا أردنا الوصول إلى حل قادر على البقاء دون تدمير بيوت أي من الطرفين.
يتوسع نص المدراش الديني (بيرشيت رابا الفصل 22 مجلد 7) بالقصة الأصليّة لقايين وهابيل، ويصفها على شكل نزاع على الموارد الدنيوية، الأمر الذي أدى إلى مقتل هابيل على يد أخيه قابيل: «على ماذا تقاتلا؟ تعال، قالوا، ولنقسم العالم. أخذ أحدهما الأرض وأخذ الآخر الموجودات المنقولة. قال الأول: الأرض التي تقف عليها ملك لي. أجاب الآخر بغضب، ما تلبسه ملك لي. قال الثاني: اخلع ثيابك. فأجاب الآخر: حلّق طائراً (فوق الأرض). نتيجة لهذا الخلاف وقف قابيل وقتل أخيه هابيل».
حسب هذا المدرس، كان يمكن حل النزاع ووقف عملية قتل هابيل، لو فهم الأخوان أن التوزيع المطلق للموارد ما كان ليحل المشكلة، حيث أنه سيوجِد وضعاً غير معقول. كان كل منهما بحاجة لكل من الأرض والموجودات. من الواضح أن حلاً يرتكز على العدالة المطلقة ليس كافياً. وما وراء ذلك، يجب على كل طرف أن يأخذ بالاعتبار احتياجات الطرف الآخر ويقدّرها.
ربما يشكّل «قانون التعويض» نموذجاً قيّماً للتفاوض السياسي. سوف يتطلب ذلك بالطبع التزاماً من قبل جميع الأطراف ليضعوا هدف حل النزاع على أعلى درجات الأولوية. سوف يثبت الزمن إذا كنا نحن والفلسطينيين على استعداد لعمل ذلك.
* مولود في بلجيكا، عالم نفساني مركزه القدس، وهو محرر «شابات شالوم» حيث يساهم بتعليق أسبوعي موجّه نحو السلام حول قسم التوراة، والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند»
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 3021 - الإثنين 13 ديسمبر 2010م الموافق 07 محرم 1432هـ
نور
لا يمكن تصور فكرة التعويض في ظل تنامي الاستيطان .. الحكومة الاسرائيلية و بضراوة اكثر من أي وقت مضى تعتبر الاستيطان حق مقدس .. و أن الفلسطينيين مجرد خرفان و ان دمائها أغراش فيمتو .. نحن نقول ان إذا كان الحديث عن لا ضرر و لا ضرار فلننظر من أي يشتعل الفتيل أولاً هل هو من القدس الشرقية أم الغربية .. لا يمكنك إلقاء قشة في الماء و تطلب منها أن لا تغرق .. الوضع الطبيعي أن ينفلت زمام السلام إذا كان الخيال هو كنيست صهيوني و كان الجواد أمريكي الصنع !!