يجهد قادة العدوّ الصهيوني في هذه الأيام لرسم برنامج عمل متكامل لإدارة الرئيس الأميركي فيما يخص المنطقة... وينشط المسئولون الصهاينة، سواء على مستوى رئيس كيانهم، أو على مستوى حكومتهم اليمينية المتطرّفة، لإيجاد تحوّل في المنطقة عبر خطين:
الأول، ويتمثل بدفع الولايات المتحدة الأميركية إلى التعامل مع إيران كخطر استراتيجي جاثم، وحثّها على وضع الخطط اللازمة لمواجهة ذلك، وتقصير فترة الحوار الأميركي المرتقب مع إيران، ورسم استراتيجية لما يسمّى «عرب الاعتدال» للتحرك في هذا الاتجاه... وقد سمعنا مواقف عربية جديدة تصعّد الحملة على الجمهورية الإسلامية، في تناسق غريب عجيب مع شروط كيان العدو وأهدافه وحركته.
وفي السياق عينه، تتواصل الحركة الاستكبارية الأميركية الظاهرة والخفيّة، ويستجيب لها بعض العرب، للبحث عن ثغرة تنفذ منها، لإحداث مشكلة بين سورية وإيران، الدولتين الممانعتين اللتين استطاعتا إحداث الفارق الذي أثّر بشكل وبآخر في الخريطة السياسية والأمنية لمصلحة قوى المقاومة في المنطقة كلها... أو للدخول على خط العلاقة الاستراتيجية بينهما بهدف تخريبها، أو إيجاد مسار معين من شأنه أن يخفف اندفاعة البلدين لتعزيز العلاقة وتطويرها...
ونحن، في هذا الجانب، ننظر بارتياح كبير إلى النتائج الإيجابية والمهمة التي ترتّبت على زيارة الرئيس الإيراني الأخيرة لسورية، ونشعر بأن كل المحاولات الرامية إلى إحداث وقيعة بين الدولتين والشعبين في إيران وسورية، هي محاولات مكشوفة ولن يُكتب لها النجاح، سواء انطلقت من الإدارة الأميركية، أو من كيان العدو، أو بفعل تنسيق مع أطراف عربية لا تزال تُصرّ على التعامي عن خطر العدو، وتفتح له أعينها وأجواءها وآفاقها، لتعمل - في المقابل - على استعداء إيران التي لم تكن يوما مشكلة للعالم العربي، ولم تعمل يوما على التعرّض لأمنه السياسي والعسكري منذ انتصار الثورة الإسلامية، بل كانت ولا تزال ركنا من أركان مواجهة العدوّ، وحصنا للمقاومين وطلاّب الحرية من العرب والمسلمين، وموقعا أساسيا يدعم تحرير فلسطين كقضية عربية وإسلامية، وإنْ كلّفها ذلك أثمانا باهظة وحملات متواصلة، بعكس ما يحاول بعض العرب أن يوحي بأن تبنّي هذه القضية من جانب إيران إنما يهدف إلى السيطرة على مكامن القوة في المنطقة، لأن المخاطر التي انعكست وتنعكس على الجمهورية الإسلامية جرّاء تبنّيها للقضية الفلسطينية لا عدّ لها ولا حصر...
أما الخط الثاني الذي يتحرك فيه العدو، الذي يهدف إلى إحداث تحوّل ميداني داخل فلسطين المحتلة ينعكس على المنطقة برمتها، فيتمثل بتوسيع دائرة الاستيطان في الضفة الغربية، وفي القدس على وجه التحديد، بحيث يُصار إلى تغيير المشهد الكامل من حول المسجد الأقصى، عبر تطويقه بحزام استيطاني تهويدي، في محاولة لتفريغه من المصلّين، ومن ثم السعي لتحويله إلى كنيس يهودي... وتحويل ما تبقّى من الضفة الغربية إلى جزر استيطانية تطوّق البلدات والقرى الفلسطينية، وتفرض أمرا واقعا حتى على ورقة التوت العربية المسماة: مبادرة عربية.
ووسط ذلك كله، ينشط العرب، وخصوصا أولئك الذين صادروا شعوبهم بقوانين الطوارئ وحملات المخابرات المتتالية، لإرسال برقيات التهنئة إلى كيان العدو - عبر رئيسه - بمناسبة ما أسموه الاستقلال الواحد والستين للدولة... في صورة من صور الخيانة والخضوع والسقوط الذي لم نرَ ما يشابهه في واقعنا المعاصر أو في تاريخنا البعيد كشعوب عربية وإسلامية، ولكنه الذل الذي يواصل محاولاته الفاشلة ليلبس لبوس الغفران.
إنّنا ندعو العرب إلى قراءة واقعية وهادئة لأهداف «إسرائيل» الساعية لمنع قيام أية قوة عربية وإسلامية يمكن أن تواجه التفوّق العسكري الصهيوني، والمتحركة للقضاء على المقاومة بكل أشكالها الجهادية والثقافية... ونريد لهم الانفتاح على القوة الأكبر التي تمثل الداعم الاستراتيجي لقضاياهم، والمتمثلة بالجمهورية الإسلامية في إيران، لأننا نعتقد أن الفرصة لا تزال سانحة لهم لتصحيح هذا الخلل.
وفي جانب آخر، كنا قد دعونا الأمم المتحدة - عبر أمينها العام - إلى الخروج من دائرة التحريض الذي تمارسه عبر بعض مبعوثيها لإحداث مشكلة في العلاقة بين بعض المواقع العربية والإسلامية، كما دعونا إلى إحداث نقلة نوعية تعيد إلى المنظمة صدقيتها، عبر السعي لمحاكمة «إسرائيل» على جرائمها البشعة التي ارتكبتها في غزة، ولكن يبدو أن الأمانة العامة للأمم المتحدة لا تزال تخضع للضغوط الإسرائيلية، وبدلا من أن يسعى الأمين العام للحفاظ على المنظمة، أعلن أنه سيغلق باب مساءلة العدوّ بعد عرض تقرير لجنة التحقيق التابعة للمنظمة الدولية على مجلس الأمن، وأنه سيكتفي بإجراء حوار مع حكومة العدوّ، وأنه سيبحث في صرف التعويضات لعائلات الضحايا الذين قتلوا داخل مراكز «الأونروا» في غزة من موازنة الأمم المتحدة نفسها، ولن يطالب العدوّ بدفع التعويضات، ليعطي دليلا آخر على سقوط منظمته بالضربة القاضية، وعلى أن العدالة الدولية هي استنسابية ولا صدقية لها، وبالتالي فإن على الشعوب وقواها الحيّة أن تبحث عن السبل التي تحفظ فيها حقوقها وكرامتها عبر قواها الذاتية ومقاوماتها الأصيلة، فهذا عالمٌ لا وجود فيه للعدالة، ولا احترام فيه للحقوق إلا من خلال القوة. ولذلك، فإنني أدعو شعوبنا إلى احتضان كل أشكال المقاومة الشريفة، وإلى بناء كل أسس القوة، وإلى عدم التنازل عن أي سلاح يمثل سلاح العزة في مواجهة العدوّ والغطرسة الدولية، لأن التنازل عنه يصبح تنازلا عن الحق في الوجود والاستمرار وحماية المستقبل كله.
أما في لبنان، فإننا نلاحظ فقدان الإحساس الوطني ليحلّ محلّه الإحساس الطائفي والمذهبي الذي يحاول أن يغطّي سلبياته بطريقة توحي بأنّ القضية قضية مبدأ، في الوقت الذي نرى أن الخطاب التعبوي يترك تأثيره العدواني في الشارع، ليكون الصوت الذي يضعه هذا الفريق أو ذاك الفريق في الصندوق تنفيسا عن الحالة النفسية المعقّدة ضدّ الآخر، لا انطلاقا من البرامج التي يقدّمها هذا الزعيم أو ذاك حول القضايا العامة الإصلاحية أو التغييرية التي لا يفقه المواطن منها شيئا لأنه مشغول عن ذلك بالهتاف والتصفيق. هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فإن الجميع يتحدثون عن ضرورة مساءلة المسئولين ومحاسبتهم، لكنّ المسألة تختلف على أرض الواقع، إذ لا يستطيع أحد أن ينتقد المسئولين الطائفيين، لأن أبناء الطائفة يعتبرون نقد المسئول عدوانا على الطائفة، كما أن المذهبيين يرون في انتقاد زعيم المذهب حربا على المذهب نفسه، ما يجعل من النقد، حتى الموضوعي منه، مشكلة للوطن قد تؤدي إلى العنف وإلى إثارة التعقيدات في علاقة المواطنين بعضهم ببعض، وهذا ما يوحي بفرضية العصمة للمسئولين الكبار وتحويلهم إلى قدّيسين، بحيث تتحوّل أخطاؤهم إلى مقدّسات لا يجوز إثارة علامة استفهام حولها، وتأخذ المسألة أبعادا أخطر في حركة الشخصيات الدينية الكبرى أو الصغيرة التي تعلن الولاء المطلق لزعيم الطائفة على حساب القيم الدينية أو الأخلاقية التي ينبغي أن تحكم حركتها ومواقفها.
أما أن تسأل هذا المسئول أو ذاك: «من أين لك هذا؟»، فأنت تمسّ قدس الأقداس، وإذا طالبت بإصلاح المؤسسات الدستورية، فإنك بذلك تتجاوز الخطوط الحمراء، ولا سيّما إذا تحدثت عن أخطاء القضاة والرؤساء وعن المجرمين الذي صنعوا المأساة للوطن كله، وتحوّلوا إلى مواقع القيادة التي يراد لها أن تبقى فوق النقد، فأنت بذلك في موقع الاتهام والمساءلة لأنك تعرّض البلد وأمنه للخطر... ويبقى السؤال عن عيون العدوّ وشبكاته التي تفرِّخ في هذه المنطقة وتلك، ليتحدث البعض عن العمالة كمهنة في لبنان، وليشير البعض الآخر إلى أن العملاء الصغار تلامذة في مدرسة العمالة التي أسسها الكبار في البلد المفتوح على رياح العالم وعواصفه، واستخباراته المنتشرة في كل مكان، والتي تجمع المِلل والنِّحَل والطوائف والمذاهب في طائفة العمالة التي وحّدت العملاء ومزّقت اللبنانيين.
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 2437 - الجمعة 08 مايو 2009م الموافق 13 جمادى الأولى 1430هـ