عودة التأزم بين السلطتين التشريعية والتنفيذية أصبحت من المشاهد المألوفة في الحياة السياسية في الكويت. فالمشهد يتكرر ويعاد إنتاجه دورياً من دون وجود أفق دستوري يضبط التوازن المطلوب الذي يضمن تأسيس استقرار للمعادلة الداخلية. وهذا التأزم الذي يتمظهر على الساحة بعد كل حين أخذ يحفر عمودياً في بنية السلطة ما يؤشر إلى احتمال تطور المشكلة وتحولها إلى مأزق من الصعب السيطرة عليه. والسبب أن التأزم أخذ يتراكم وبدأ ينتقل من شكله البسيط إلى شكله المركب الذي تتداخل في قعره شبكة من التقاطعات الأهلية تتجاوز الحد المعقول للتسوية بين السلطتين.
الكويت الآن تعاني من فائض سياسي يحتاج إلى قنوات دستورية مختلفة تستطيع تلبية الرغبة الداخلية التي تعبر عن نفسها بنمو قوى محلية لم تعد متوافقة مع الهيكل التنظيمي ومظلته الواقية لكل ما قد ينشأ من تعدد في مراكز القوى الأهلية والسياسية.
هذا الفائض في نمو مصادر القوة السياسية كان بالإمكان تلبية حاجاته في فترة ستينات وسبعينات وثمانينات القرن الماضي من خلال تسويات محلية مكفولة بذلك الفائض المالي في الدخل الوطني (النفط والاستثمارات) المتعايش مع هيئات مدنية احترفت التجارة لتكوين خط موازن للسلطة التنفيذية. وبسبب تنوع مصادر الدخل تمكنت الدولة من تأسيس حياة برلمانية تتساكن تحت قبتها مواقع متباينة في الاجتهادات ولكنها متوافقة على تقاسم السلطة وتوزع مراكزها بين المناصب الوزارية والمراجع التشريعية.
التسوية المذكورة أصيبت بهزة غير متوقعة في مطلع التسعينات حين انفجرت أزمة الكويت في صيف 1990 بسبب تدخل عوامل خارجية أدت إلى زعزعة استقرار المنطقة وإدخال دول الجوار في حرب دولية ساهمت في إعادة صوغ التوازنات الإقليمية. شروط حرب الخليج الثانية اختلفت عن الأولى لأنها جذبت إلى وسطها العناصر الخارجية التي أصبحت تلعب الدور الرئيس في تحريك الملفات بوصفها تشكل قوة عسكرية لا يستغنى عنها لضمان أمن المنطقة واستقرارها وتشكيل مظلة حماية تقي الدول من طموحات دول الجوار.
دخول الولايات المتحدة على خط التوازن الإقليمي وتدخلها العسكري المباشر في كسر المعادلات من جهة وتصحيحها من جهة أخرى ساهما في تكوين فضاءات لا تتوافق بالضرورة مع أنماط تلك التسويات التي عهدتها الكويت قبل العام 1990. فالهزة كانت عنيفة وأكبر من طاقات المنطقة على تحمل مضاعفاتها، ولم يكن بالإمكان تصور توقفها قبل حصول ارتدادات داخلية تعيد تشكيل المشهد في إطارات دستورية مخالفة لتلك التسوية التي صيغت في العام 1962.
استقر المشهد الكويتي نسبياً في مرحلة إعادة بناء ما دمرته الحرب بسبب تدخل العوامل الخارجية وتراجع قوة العراق الإقليمية وانكفاء نفوذ بغداد وابتعادها عن الجوار الجغرافي. وترافق هذا الاستقرار مع حصار العراق دولياً وتدفيع سلطته فاتورة الدمار وتعويض الخسائر الناجمة عن التسبب في إشعال نيران حرب الخليج الثانية. واستمر هذا المشهد يؤتي ثماره في إطار مظلة دولية ترعى الولايات المتحدة إدارتها وتحريك خيوطها إلى أن بدأت واشنطن تستعد لإنتاج أزمة تمهد الطريق أو تعطي ذريعة لإشعال حرب الخليج الثالثة.
هذا الأمر لم يكن مستغرباً في اللعبة الدولية. فوجود أميركا العسكري في منطقة استراتيجية غنية بالنفط والثروات والفائض المالي يشكل بحد ذاته مجموعة إغراءات تعزز في دوائر شركات الطاقة ومؤسسات التصنيع الحربي في الكونغرس رغبات الطمع ومشاعر الطموح في بسط النفوذ وتوسيعه بغية السيطرة على الآبار والمنابع وخطوط النقل.
العوامل الخارجية لعبت دورها مجدداً في زعزعة الاستقرار وتحضير المسرح الإقليمي ليكون ساحة تتحرك في إطارها استراتيجية «تيار المحافظين الجدد» التي حملت ايديولوجيتها مجموعة أفكار تقويضية كارهة لما هو متوافق عليه من تسويات متوارثة في منطقة الخليج.
أيضاً شروط حرب الخليج الثالثة كانت مختلفة عن آليات حرب الخليج الثانية حتى لو اعتمدتها واشنطن مقدمة لسياسة التغيير والتعديل. فالثانية كانت بناء على رغبة دول المنطقة للتخلص من الغزو الذي سبب أزمة دولية استغلتها الولايات المتحدة للتدخل العسكري المباشر، بينما الثالثة جاءت بناء على معطيات أميركية وبالضد من رغبة الدول لأنها تضمنت سلسلة غايات غير مفهومة ولكنها واضحة في أهدافها القريبة والبعيدة.
احتلال بغداد في العام 2003 كسر الكثير من زوايا الصورة الإقليمية وأعاد إنتاج هيكلية مشوهة ومحطمة في العراق تقوم على معادلة «الفوضى البناءة» واللااستقرار بسبب غياب الدولة الوطنية الواحدة وظهور فدراليات طوائف ومذاهب ومناطق وأقوام إلى جوار الدول المحيطة ببلاد الرافدين.
هذا المشهد الفوضوي بدأ يدخل في مرحلة التموضع وإعادة الانتشار ما يسمح لاحقاً بنمو تنافسات محلية وجوارية سيكون لها تأثيرها على المحيط الجغرافي وتلك الدول الواقعة على حدود العراق.
سابقاً كان في بلاد الرافدين قوة واحدة ودولة واحدة وحزب واحد ورئيس واحد وعنوان واحد، بينما الآن يعاني العراق من تخمة في تنوع القوى وتعدد مراكزها وتشرذم الأحزاب والكيانات والرؤساء والعناوين. وهذه الفوضى الهدامة التي اجتاحت بلاد الرافدين منذ العام 2003 ساهمت في تعديل الهوية الأهلية لصيغة العراق، كذلك لعبت دورها في هيكلة معادلات إقليمية منها ما هو ممتد من الخارج إلى الداخل ومنها ما هو منبسط من داخل العراق إلى خارجه.
الكويت مثلاً التي كانت أكثر المستفيدين من حصار النظام السابق أصبحت الآن من المتضررين من انهياره لأنها خسرت العنوان الواضح الذي يمكن أن تتوجه إليه للمطالبة في التعويض أو الترسيم. وهذا النوع من الفوضى المجاورة يساعد على عدم استقرار أي تسوية جرى إقرارها في موعد سابق. وما يحصل الآن من تكرار لمشهد التأزم بين السلطتين التنفيذية والتشريعية لا يمكن اختزاله في بند داخلي واحد لأن الشبكة التي تتقاطع في وسطها التجاذبات السياسية تتجاوز الحد المعقول للتسوية بين القوتين.
العوامل الخارجية كما يبدو فعلت فعلها وما كان مؤقتاً في العام 1990 - 1991 أصبح من الثوابت التي لا غنى عنها لضمان الاستقرار. وبما أن هذا الخارج يمتلك أجندة ليست بالضرورة متوافقة مع رغبات المنطقة تصبح سياسة الزعزعة واسطة لتأمين ذريعة تبرر وجود المظلة العسكرية الواقية من الاختراقات ولكنها مكلفة في تغطية متطلباتها.
الفائض السياسي الذي تعاني منه الكويت لا يمكن تفسيره محلياً بربطه في عوامل محض داخلية. فالجانب المذكور موجود وليس جديداً. الجديد هو احتمال نمو الفوضى في العراق وتمدد تلك التخمة من العناوين السياسية والأهلية من بلاد الرافدين إلى جوارها.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 3018 - الجمعة 10 ديسمبر 2010م الموافق 04 محرم 1432هـ
سياسة الزعزعة واسطة لتأمين ذريعة تبرر وجود المظلة
العوامل الخارجية كما يبدو فعلت فعلها وما كان مؤقتاً في العام 1990 - 1991 أصبح من الثوابت التي لا غنى عنها لضمان الاستقرار. وبما أن هذا الخارج يمتلك أجندة ليست بالضرورة متوافقة مع رغبات المنطقة تصبح سياسة الزعزعة واسطة لتأمين ذريعة تبرر وجود المظلة العسكرية الواقية من الاختراقات ولكنها مكلفة في تغطية متطلباتها.