ارتاح ابن خلدون من المهمات السياسية الميئوس منها لفترة قصيرة إلى أن وقع الخلاف بين السلطان ووزيره عمر بن مسعود بسبب تقصير الأخير في قمع التمرد الذي يقوده حمزة بن علي بن راشد في بلاد مغراوة وأبو زيان في بلاد حصين وكلف وزيره الجديد أبوبكر بن غازي بمهمة وأد الفتنة فنجح في القاء القبض على حمزة وجماعة من أصحابة «فضرب اعناقهم». ثم لاحق أبو زيان في حصين وحاصره وطلب السلطان دعم شيوخ الدواودة وصاحب بسكرة (أحمد بن مزنى) في معركته. وبما أن ابن خلدون مقيم في بسكرة وله دالة على الدواودة كتب إليه السلطان بالتحرك وأمره «بالمسير بهم لذلك فاجتمعوا علي وسرت بهم أول سنة أربع وسبعين (774 هجرية/ 1372م) حتى نزلنا بالقطفة» (التعريف، ص 526). وانتهى الحصار بهزيمة أبو زيان فهرب الأخير إلى جبل غمرة بينما سالمت احياء حصين وصالحت السلطان عبدالعزيز. وكلف السلطان ابن خلدون بمهمة ملاحقة الهارب أبو زيان في جبل غمرة فسار إليه مع أولاد يحيى بن علي بن سباع للقبض عليه لكنه هرب ثانية إلى بلدة «من مدن الصحراء» فقفل عائداً إلى أهله في بسكرة و«خاطبت السلطان بما وقع في ذلك، وأقمت منتظراً أوامره حتى جاءني استدعاؤه إلى حضرته، فارتحلت إليه» (التعريف، ص 527). وما كاد يصل مع الأهل وولده الرضيع (زيد) إلى بلدة مليانة «من أعمال المغرب الأوسط» حتى وصله خبر وفاة السلطان عبدالعزيز وتولى مكانه ابنه أبو بكر السعيد في كفالة الوزير أبو بكر بن غازي. فارتحل إلى أحياء العطاف ونزل على أولاد يعقوب بن موسى واجتمعت القافلة و«ارتحلنا جميعاً إلى المغرب على طريق الصحراء» (التعريف، ص 545).
في طريقهم إلى المغرب وصلت أخبار أبو حمو (سلطان تلمسان السابق وزوج ابنة صاحب بجاية المقتول) الذي استغل وفاة السلطان عبدالعزيز وقام بالاستيلاء على تلمسان وجوارها. وأوعز إلى بني يغمور (من شيوخ عبيدالله) باعتراض قافلة ابن خلدون في منطقة رأس العين «فاعترضونا هنالك فنجا من نجا منا على خيولهم إلى جبل دبدو، وانتهبوا جميع ما كان معنا، وأرجلوا الكثير من الفرسان وكنت فيهم، وبقيت يومين في قفرة، ضاحياً عارياً إلى أن خلصت إلى العمران، ولحقت بأصحابي بجبل دبدو» (التعريف، ص 546). وسار بعدها إلى فاس فاستقبله الوزير أبو بكر وابن عمه محمد بن عثمان و«كان لي معه قديم صحبة واختصاص» تعود إلى أيام السلطان أبو سالم فرحب به وأقطعه وأعطاه «فوق ما احتسب، وأقمت بمكاني من دولتهم أثير المحل، نابه الرتبة، عريض الجاه، منوّه المجلس» (التعريف، ص 546).
يبدو هنا أن الحظ عاد يبتسم لابن خلدون من جديد إلى جوار صديقه ابن الخطيب... لكن إلى حين. فالتاريخ كان على موعد مأسوي جديد. إذ ما كاد يستقر المغرب نسبياً حتى انفجرت في وجه الوزير أبو بكر أزمة مزدوجة مع سلطان غرناطة ابن الأحمر، الأولى تتعلق بالوزير المؤرخ ابن الخطيب حين دعاه صاحب الأندلس إلى إبعاده ورفض الوزير ذلك فاضطربت العلاقة بينهما. والثانية مطالبته بخلع السلطان الصبي (ابن عبدالعزيز) واستبداله بأحد أشقاء السلطان الذي سبق وحبس إخوته في طنجة ليسهل طريق الولاية لابنه الصبي. ورفض الوزير أبو بكر الأمر الثاني أيضا وتمسك بكفالته للسلطان الصغير.
نشبت الحرب بين غرناطة وفاس للسيطرة على بلاد المغرب وأعمالها وثغورها في وقت كان الوزير المؤرخ قد اخبر صديقه ابن خلدون بالانتصارات والفتوحات الجديدة التي حققتها الأندلس في صراعها مع ممالك الإفرنج في إسبانيا. ويبدو أن السلطان ابن الأحمر استقوى بفتوحاته وانتصاراته في الأندلس لمد نفوذه وسلطانه على المغرب، وأدى الأمر إلى حصول كارثتين الأولى في الأندلس والثانية عودة الصراعات السياسية – القبلية إلى المغرب بين صاحب غرناطة وصاحب فاس بالوكالة.
يصف ابن خلدون في مذكراته (التعريف) ذاك الصراع الدموي المدمر بين دولة ابن الأحمر ودولة بنو مرين في المغرب في عهد الوزير أبو بكر، ويدخل بتفاصيل مؤلمة لما حصل طوال شهور امتدت إلى العام 775 هجرية (1373م) حين وافق الوزير على الصلح وخلع الصبي ابن السلطان السابق عبدالعزيز، وهو أمر امتدت ترتيباته إلى «فاتح ست وسبعين (776 هجرية)» (التعريف، ص 548) حين دخل السلطان أبو العباس (شقيق عبدالعزيز) دار المُلك.
ماذا كان يفعل ابن خلدون طوال فترة الاقتتال وصولاً إلى الصلح والخلع؟ أما «أنا فكنت مقيما بفاس في ظل الدولة وعنايتها، منذ قدمت على الوزير سنة أربع وسبعين (774 هجرية) كما مر، عاكفاً على قراءة العلم وتدريسه» (التعريف، ص 548)، بينما كان وضع صديقه المؤرخ أسوأ لأن السلطان ابن الأحمر استمر يطالب بإبعاده من فاس أو تسليمه لغرناطة، فماذا كان مصيره؟
يروي ابن خلدون قصة مركبة من شيئين الأولى تتعلق به والثانية بصديقه الوزير. ومن كلامه يظهر أنه كان منزعجاً من إلقاء القبض على رجل الدولة والمؤرخ الكبير ابن الخطيب (64 سنة) الذي يكبره بحوالى 20 سنة. ويبدو أن صاحب فاس قرر إلقاء القبض على ابن الخطيب تلبية لضغوط السلطان ابن الأحمر منعاً للحرج حتى لا يضطر إلى تسليمه. وظن ابن خلدون أنه بما يملك من قدرات دبلوماسية في التفاوض إلى خبرات سياسية عززتها الكثير من الاتصالات والمعارف يستطيع أن يساعد صديقه الذي بعث إليه «من محبسه مستصرخاً بي، ومتوسلاً» (التعريف، ص 550). لكن من أين يبدأ في اتصالاته ووساطته؟ وكيف يمكن التقاط طرف الخيط في فترة كانت بلاد المغرب تجتاحها الفوضى القبلية وعدم الاستقرار السياسي؟ لم يكن صعباً على رجل ناضج ومتابع كابن خلدون أن يلحظ أن صاحب القرار ليس في فاس ولا بجاية ولا تلمسان بل يعيش في غرناطة. فقرر الذهاب إلى الأندلس للبحث كما يبدو في طريقة ما تساعد على إطلاق صديقه من السجن.
كعادته لم يفصح عن رغبته تلك فاستغل صداقته مع الوزير محمد بن عثمان الذي انتقل للعمل تحت أمرة السلطان الجديد أبو العباس وكان «يظهر لي رعاية ذلك، ويكثر من المواعيد» وفي الآن كان الأمير عبدالرحمن «يميل إليّ ويستدعيني أكثر أوقاته ويشاورني في أحواله» (التعريف، ص 549) وهو أمر اغضب صديقه الوزير محمد بن عثمان و«اغرى سلطانه فقبض علي». وأثار اعتقال ابن خلدون غضب الأمير عبدالرحمن وأمر بإطلاق سراحه، فأفرج عنه، وأصبح صاحبنا بين نارين نار الوزير محمد بن عثمان الحاقد عليه ونار الأمير عبدالرحمن الذي أطلق سراحه وانعم عليه. فقرر على اثر ذلك المغادرة إلى غرناطة لعله يستطيع هناك مساعدة صديقه المؤرخ وإطلاق سراحه. وأخذ يتحين مناسبة يبرر فيها خروجه من المغرب. وجاءت المناسبة عندما عزم صديقه الأمير عبدالرحمن الخروج إلى مراكش فطلب ابن خلدون مرافقته بسبب الوحشة و«معتزماً على الإجازة إلى الأندلس» (التعريف، ص 549).
يبدو أن الأمير نصحه بأخذ الأذن من سلطان فاس الجديد (أبو العباس) فعاد إلى هناك و«استأذنه في شأني فأذن لي بعد مطاولة، وعلى كره من الوزير محمد بن عثمان (...) ورجال الدولة» (التعريف، ص 549) وسمح له بالمغادرة إلى غرناطة فانطلق «بقصد القرار والدعة».
لكن ماذا يفعل بأسرته؟ تذكر شقيقه يحيى الذي أرسله نيابة عنه لتولي منصب الحجابة في تلمسان في عهد السلطان أبو حمو وعندما رحل أثر استيلاء السلطان عبدالعزيز عليها استقر يحيى في خدمته و«بعده في خدمة ابنه محمد السعيد المنصوب مكانه. ولما استولى السلطان أبو العباس على البلد الجديد، استأذن الأخ في اللحاق بتلمسان، فأذن له وقدم على السلطان أبو حمو فأعاده إلى كتابة سره كما كان أول مرة» (التعريف، ص 549). هناك دورة كاملة عاشها شقيقه يحيى بدأت في تلمسان في عهد السلطان أبو حمو وانتهت أيضا في تلمسان بعد أن استعاد أبو حمو سلطانه. وفكر ابن خلدون وهو في طريقه إلى الأندلس بإنقاذ أسرته. ففاتح بالأمر كاتب السلطان ابن الأحمر الذي التقاه مصادفة في جبل الفتح. وكان كاتب سلطان غرناطة (احتل موقع صديقه ابن الخطيب بعد اعتقاله) في مهمة إلى فاس كلفه بها ابن الأحمر. وأوصاه ابن خلدون أن يتوسط له مع صاحب فاس والسماح لأهله وولده الالتحاق به في غرناطة. لكن أهل الدولة «تنكروا لذلك وساءهم استقراري بالأندلس، واتهموا أني ربما أحمل السلطان ابن الأحمر على الميل إلى الأمير عبدالرحمن، الذي اتهموني بملابسته، ومنعوا أهلي من اللحاق بي» (التعريف، ص 550).
وقع صاحبنا في حيرة كبيرة. شقيقه في تلمسان، وعائلته محجوزة في فاس، وصديقه المؤرخ في السجن. حاول أن يساعد صديقه لكنه خاف على اسرته من القتل في حال أعلن عن نيته. فادعى أنه قرر الانصراف إلى الأندلس «بقصد القرار والانقباض، والعكوف على قراءة العلم» ولم يشر إلى موضوع صديقه المعتقل.
وصل ابن خلدون إلى الأندلس في سنة 776 هجرية (1374م) و«لقيني السلطان بالبر والكرامة وحسن النزل على عادته» (التعريف، ص 550) وما كاد يصل حتى خاطب رجال الدولة في فاس السلطان ابن الأحمر وطلبوا منه القاء القبض على ابن خلدون وإعادته إلى المغرب.
رفض صاحب غرناطة ذلك. ثم طلبوا منه «أن يجيزني إلى عدوة تلمسان» وأبدوا له «أني كنت ساعياً في خلاص ابن الخطيب» (التعريف، ص 550). ولم ينكر التهمة وذكر له أنه خاطب أهل الدولة بالإفراج عنه وفشل في مسعاه. فغضب السلطان ابن الأحمر منه واستوحش لذلك فأمر بقتل ابن الخطيب في سجنه وقرر إجازة سفره إلى تلمسان. ونزل ابن خلدون في بهنين في وقت كان الجو بينه وبين صاحب تلمسان أبو حمو (زوج ابنة سلطان بجاية السابق) مظلم بسبب وقوفه إلى جانب السلطان عبدالعزيز خلال فترة إقامته في بسكرة. انتظر ابن خلدون مصيره في بهنين وتوسط له مع أبي حمو أحد شيوخ المنطقة يدعى محمد بن عريف «فعذله في شأني فبعث عني إلى تلمسان، واستقررت بها بالعباد» (التعريف، ص 550).
كان ذلك سنة 776 هجرية (1374م) وابن خلدون بلغ 44 من عمره فقرر الانقطاع والعزلة عن المحيط والعالم فأرسل وراء أسرته من فاس فأقاموا معه في تلمسان و«أخذت في بث العلم». لكن قراره ليس سيد نفسه إذ ما كاد يستقيم وضعه حتى اتصل به السلطان أبو حمو واستدعاه وكلفه بسفارة إلى قبائل الدواودة في مهمة تهدف «إلى استئلافهم». واعتذر صاحبنا عن القيام بالمهمة فهو قرر كما يبدو بعد مقتل صديقه المؤرخ الشاعر والوزير أن ينقطع للعلم ويعتزل الحياة السياسية. وألح عليه السلطان أبو حمو «فاستوحشت منه ونكرته على نفسي لما آثرته من التخلي والانقطاع». وأصر السلطان على موقفه فاضطر ابن خلدون إلى اجابته ذلك «ظاهراً» وقرر الهرب، و«خرجت مسافراً من تلمسان حتى انتهيت إلى البطحاء، فعدلت ذات اليمين إلى منداس، ولحقت باحياء أولاد عريف (...) فتلقوني بالتخفي والكرامة، وأقمت بينهم أياماً حتى بعثوا عن أهلي وولدي من تلمسان، وأحسنوا العذر إلى السلطان عني في العجز عن قضاء خدمته» (التعريف، ص 550). وهكذا حسم ابن خلدون أمره وانتصر الجانب الثقافي على السياسي في نفسه. ودخل فترة الانقطاع والتأمل والتفكير بعد مرحلة من الاعتزال القلق شهد خلالها الأهوال وكاد أن يلقى الهلاك بعد أن لقي صديقه المؤرخ حتفه خنقاً في السجن.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 3017 - الخميس 09 ديسمبر 2010م الموافق 03 محرم 1432هـ
تحياتي
بارك الله فيك وعساك على القوة