العدد 3016 - الأربعاء 08 ديسمبر 2010م الموافق 02 محرم 1432هـ

نظرة علمية على وثائق ويكيليكس والشرق الأوسط (2-2)

محمد نعمان جلال comments [at] alwasatnews.com

سفير مصر الأسبق في الصين

للأسف العمل الدبلوماسي أحياناً يتأثر بأهواء كتاب البرقيات الدبلوماسية وهم بشر يجوز عليهم الخطأ والصواب والأهواء وغيرها، وهناك الكثير من الأحداث التي يتندر بها الدبلوماسيون المحترفون لإظهار أن شخصاً ما كان يؤلف برقية لخدمة هدف معين أو أنه قرأ الأمر بفكر ومنطق خاطئ لا يستند للأسس العلمية، وهنا تبرز أهمية التعليم البحثي والتفكير المنهجي للدبلوماسي لكي يعرف ما هي نوايا طيبة، وما هي مواقف حقيقية للمتحاور معه ولكي يقوم بتقديرها بطريقة صحيحة.

ما نسعى لإبرازه هو أن ما يسمى بآلاف الوثائق الأميركية التي نشرها موقع ويكيليكس ليست بالوثائق العلمية، وإنما برقيات دبلوماسيين في كثير من الأحيان ليسوا مؤهلين بدقة، أو يفسرون بأهوائهم، أو يقعون في خداع المتحدثين إليهم، ولعل فضيحة ما سمي (بالرجل الثاني في حركة الطالبان) وتعامله مع عدد من المؤسسات الأمنية الأميركية والأوروبية وحكومة كارازاي والتي كشف عنها النقاب منذ بضعة أيام مضت أي في أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني 2010 خير دليل على ذلك المنهج من الخداع وعلى عدم دقة بعض المعلومات الدبلوماسية أو حتي الاستخباراتية مهما حملت من معان كبيرة لدلالات الألفاظ حيث إن كثيرا من الألفاظ والمصطلحات تستخدم للتمويه أو في غير مواضعها، وهنا نشير إلى علم دلالات الألفاظ وأهميته في البحث العلمي والدبلوماسي وضرورة فهم الدبلوماسي والباحث لطبيعة هذا العلم في تعامله مع غيره .

وأذكر واقعة عندما كنت قائماً بالأعمال بالإنابة لوفد مصر في الأمم المتحدة أن حضر إليّ أحد الزملاء، وكان من هواة كتابة البرقيات الكثيرة، ومعه مشروع برقية خطيرة في معلوماتها عن «أسلحة إسرائيلية لحكومة جنوب إفريقيا العنصرية» وطلب إرسالها للقاهرة كبرقية سرية حصل على معلوماتها من موظفة دبلوماسية في وفد جنوب إفريقيا، وبعد قراءة سريعة لها قلت له إنني لا أرسل مثل هذا الكلام الذي لا معنى له. فأثار ذلك دهشته وغضبه، ولكي أهدئ من روعه وغضبه استخرجت من درج مكتبي جريدة النيويورك تايمز لذلك اليوم وكنت حريصاً على قراءة الصحف مبكراً، وقلت له هذا مصدر المعلومات، وإن الدبلوماسية من وفد جنوب إفريقيا قبل سقوط نظامها العنصري قد خدعته فأسقط في يده.

هذه نماذج للتدليل على أن ما سمي وثائق ويكيليكس ليست معظمها وثائق ذات قيمة أو مصداقية وإنما هي كتابات دبلوماسية رديئة المستوى لملء الفراغ الدبلوماسي أحياناً من قبل دبلوماسيين أو حتى أفراد استخبارات غير أكفاء بالقدر الكافي. فلا يعقل وجود آلاف الوثائق عبر فترة زمنية صغيرة. فالوثائق ذات السرية الحقيقية محدودة وليست بالآلاف. ونسوق بعض الأمثلة حول بعض ما قيل في تلك الأوراق عن الشرق الأوسط فوجهة نظر مصر أو دول الخليج العربية مثلاً تجاه البرنامج النووي الإيراني معروفة في الصحف والتحليلات والأحاديث والتصريحات المنشورة. وكتابتها في برقية دبلوماسية من سفارة ما لا تعني أنها أصبحت وثيقة أو أنها تحولت من العلنية إلى السرية، مصر ودول الخليج تقول علانية إن من حق إيران الحصول على برنامج نووي سلمي، ولكنها ترفض أن يكون لإيران برنامج سلاح نووي لمخاطره الأمنية والبيئية وغير ذلك، وهذا موقف واضح ومعلن وبنفس المنطق ترفض مصر السلاح النووي الإسرائيلي وتقدم العديد من مشروعات القرارات ضده في الأمم المتحدة.

وأيضاً موقف مصر من حماس معروف ومعلن، هو رفض بناء دولة على أسس دينية ومن ثم رفض مفهوم حماس لدولة دينية، وهذا من المواقف الثابتة في التاريخ المصري طوال عصوره منذ ما قبل ثورة 1952م، إلى اليوم.

كما أن الشعب المصري ضد ممارسة الاغتيالات السياسية التي قام بها الأخوان المسلمون أو غيرهم في مصر في الأربعينيات ونحو ذلك. وأيضاً رفض مصر لأسلوب التعامل من حماس تجاه التسوية ورفض ارتباط حماس بإيران. فإذا قالها مسئول مصري لمسئول أميركي فهذا ليس وثيقة وليس سراً وليس جديداً، فهو موجود في الصحف المصرية القومية وفي تصريحات المسئولين وفي مقالات وتحليلات الكتاب والباحثين.

كذلك مواقف تركيا أو سورية أو غيرها من الدول معروفة أيضاً، والخلافات تجاه حزب الله معروفة، فليس ذلك جديداً وليس سراً وليس وثيقة. الوثيقة عندما يتم التوقيع عليها من دولة ما مع دولة أخرى. أما المواقف السياسية العامة فهي موجودة في أوراق الأبحاث والندوات والمؤتمرات، ولكن الضجة الإعلامية هي التي تبالغ في الأمور لإلهاء الناس وربما ملء الفراغ.

إن غزو إسرائيل لغزة وضربها حماس أو غزوها للبنان وضربها حزب الله ليس وثيقة سرية لأحد، فأي قراءة بسيطة لصحافي أو سياسي أو دارس علوم سياسية محترف يجد أن الحرب العالمية الأولى قامت بحادث بسيط في سيراييفو والحرب العالمية الثانية وبالذات تورط الولايات المتحدة جاء نتيجة ضرب اليابان لميناء بيرل هاربر الأميركي. ومن ثم فإن صواريخ حماس بغض النظر عن مدى فاعليتها، واختطاف حماس للجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط يتم قراءته في ضوء سياسة إسرائيل وعقيدتها العسكرية. وهذه أيضاً ليست سراً فهي موجودة في دراسات وتحليلات استراتيجية إسرائيلية، هذه التحليلات المنشورة لمراكز الأبحاث لا تعتبر وثيقة ولا تعتبر سراً. ومن نفس المنطلق فان توقع حدوث غزو إسرائيلي لغزة أو لبنان لم يكن اجتهاداً ولا معلومة، فإسرائيل لا تخفي نواياها وتعلنها صراحة كثيرا وتبلغها للجميع إذا لم يكن يقرأ ولا يمكن لأحد إيقافها عن عدوانها بما في ذلك القوى الكبرى. ما يردده بعض قادة حماس حول خطورة علم مصر أو السلطة الفلسطينية بأفعال إسرائيلية لا معنى له لأنه إذا كان هناك قائد يقوم بتصرف ما ضد دولة أخرى حتى وإن كانت محتلة، فلابد أن يكون له أدنى معرفة بردود الفعل أما أن يقول قائد يوصف بالثورية والنضال والمقاومة وخلافه من هذه المصطلحات، التي فقد بعضه معناه الحقيقي في عصرنا الحاضر، أنه لو علم أن إسرائيل ستدمر في غزة أو في لبنان على النحو الذي حدث فإنه لم يكن يقوم بما قام به فهذا دليل على عدم الوعي وعدم قراءة الأمور العلنية والمنشورة وعدم تقدير ردود الفعل الإسرائيلية والعقيدة العسكرية الإسرائيلية ومن ثم فإن هذا يثير مسألة صدقية مثل هؤلاء القادة.

إنه من الضروري لكل باحث سياسي أو قائد يتابع ما تنشره مراكز الأبحاث المتخصصة وإلا فانه يكون مخطئا في فكره وعمله وممارساته، وهناك على سبيل المثال كتاب التوازن العسكري الذي ينشره معهد الأبحاث البريطاني وبه معلومات عسكرية دقيقة وليست بالضرورة كافية أو صادقة مئة في المئة، كذلك كتاب معهد استوكهلم لأبحاث السلام الدولي والذي يعتبر مرجعاً علمياً وهكذا عشرات المؤلفات المشابهة.

الخلاصة أن ما يقال بأنه وثائق ويكيليكس ليست وثائق، وليست لها سرية، وإنما معظمها تحليل وتعبير عن وجهات نظر حتى وإن كان أطرافها سياسيون أو دبلوماسيون، وينبغي عدم المبالغة ومن الضروري وضع الأمور في نصابها لدى المختصين والسياسيين وأصحاب القرار، أما الإعلام الصاخب والمثير فهذا له دور آخر يعرفه أساتذة الإعلام والإعلام السياسي.

إن مأساة عالمنا العربي ذات أبعاد متنوعة، ولكن أخطرها محدودية المعرفة والعلم ومحدودية الاعتماد على الباحثين والمفكرين وذوي الاختصاص والمبالغة في النظر للأمور بلا تبصر وروية.

إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"

العدد 3016 - الأربعاء 08 ديسمبر 2010م الموافق 02 محرم 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 6:46 ص

      حتى لو كانت غير علمية

      حتى لو كانت غير علمية وغير دقيقة وغير مووقة وغير ديمقراطية هل تنكر دور بعض الدول العربية في حصار وتجويع الشعب الفلسطيني في غزة؟ وهل تنكر ان بعض الدول العربية عملت بالفلسطينيين اكثثر مما كانت تحلم به اسرائيل؟

    • زائر 3 | 12:40 ص

      الغير معروف

      الغير معروف هم أصحاب الوجهين الذين أسقط في أيديهم .. الوثائق امريكية و ليست من دبلوماسيي العالم الثالث مثل المثال المذكور حيث العمل المهني غير مقارن

    • زائر 2 | 12:16 ص

      ماذا تعني بغير علمية؟

      يعني شنو دكتور غير علمية؟ تريد تقول ان ما كشف فيها غير صحيح؟ حتى لو كان كتبها دبلوماسيين غير مؤهلين (وهذه فرضية غير علمية) فتبقى اهمية المعلومات التي كشفها وتلقي الضوء على المواقف الحقيقية للاطراف، خصوصا من يطالبون بالسلم في العلن وبالحرب في السر ووراء الكواليس.

اقرأ ايضاً