أخذني الاشتغال بالنقد المسرحي لأن أكون معقباً على العروض المسرحية التي قدمت في اليوم الرابع للمهرجان المسرحي الثاني لجامعات دول مجلس التعاون، حيث انطلق الممثلون المبدعون من طلاب جامعات المجلس في ملاحقة العروض المسرحية على مدى خمسة أيام ما بين الصخير، وصالة مدرسة مدينة حمد ومسرح الصالة الثقافية. وهنا أقدم قراءة لمسرحيتين هما (البرواز) لجامعة القصيم و(التشخيص أولا) لجامعة الإمام محمد بن سعود أما المسرحية الثالثة مسرحية ( شباب ولكن) لجامعة قطر فأتركها للعدد القادم
تشتغل مسرحية (البرواز) على ما في الحياة من طاقة مسرحية بالأخص ما في المصحة النفسية وما لدى المجنون من قدرة على التمثيل وإيهام الآخرين والتوهم لذاته، وهذا ما يؤكد على القيمة التي يضيفها المسرح الجاد، ففي الوقت الذي يقوم بعملية التمثيل فإنه يقوم بالبحث عما في الحياة من مظاهر وإمكانات التمثيل بغض النظر عن تماهينا مع هذه المظاهر أو عدم التفاعل معها، وما تلقينا السلبي للمجنون وهو يمثل الحالات التي تطرأ عليه أو الشخوص التي يتقمصها إلا حالة من حالات المقاومة وعدم التماهي مع الشخصيات التي يختلقها أو يعيشها المجنون. مسرحية (البرواز) من تأليف عبد الله بن عبد العزيز المغيولي، إخراج ماجد عيسى البشري، تمثيل راكان بن عارف اللحيدان، عبد العزيز مزيد البازعي، عبد الله إبراهيم العبيد، منصور إبراهيم البراك، محمد صالح الرثيع.
وبمحاولة الممثلين مسرحية البرواز تقديم أدوارهم ومقولاتهم من خلال تمثيل أدوار المجانين في المصحة فإن المسرحية تكون قد استوظفت في هذا العرض تقنية المسرح داخل المسرح لتكشف عما وراء كل شخصية من الشخوص من حكاية، وعقدة فما هؤلاء المجانين سوى شخصيات متناقضة قدموها على الخشبة بمجموعة متشابكة ومتداخلة من الحوارات الداخلية والخارجية، ولعل هذا ما أضفى نوعاً من الغموض أحياناً على بعض الحوارات وتشتتها عند المتلقي.
وحين يتحول الممثلون إلى مجانين فإنه ليس غريباً أن تتوه عباراتهم وتضطرب خطاباتهم وتتقطع اتصالاتهم مع الآخرين من حين لآخر، فتجنح للغموض والثرثرة، وكذلك حين يتحول المجانين إلى ممثلين فإنه ليس غريباً هنا أن يتحول الدكتور إلى مخرج، وبالعكس حين يتحول الممثلون إلى مجانين يتحول المخرج إلى دكتور، فهو العين التي تراهم وتتقبل حكايتهم أو ترفضها في حالة الدكتور، وكذلك الأمر مع الممثلين، فالمخرج هو الذي يحكم بقبول أو رفض ما يقدمه الممثلون من حكاية، ولذلك كانت هناك مطابقة ومماهاة وتراوح بين فترة وأخرى ما بين المخرج والدكتور، خصوصاً حين يكسر الممثلون حاجز الإيهام ويخاطبون مرة الدكتور وأخرى المخرج في جهة المشاهدين متسائلين عن قناعته أو عدمها بتمثيلهم أو قبول وتصديق حكايتهم.
اشتغلت مسرحية البرواز على ثيمة الجنون وما بها من طاقة إيهامية لتقول ما تريد ولتعبر عن أهم مقولاتها والتي هي أن المجنون حين يتجانن إنما يمثل جموع الشخصيات المتناقضة التي يتوهمها ولعل عقدته هي في محاولة إيهامنا بشخوصه، وعدم اقتناعنا أو استيهامنا معه لتلك الشخوص التي يخلقها ويتوهمها، ولعل هذا ما فعله المخرج بحركة المجاميع على الخشبة.
وليس هذا الوهم والإيهام الذي تصنعه الكتلة البشرية في المسرح عملاً عبثياً إنما هو لعبة فنية يلعب معنا بها المخرج «ماجد البشري» وذلك حين يحاول عبرها أن يقول مقولته فما هي المقولة التي يريد الوصول إليها.
إنه يريد أن يقول إن الجنون ليس قناعاً وإنما هو عصاب يقول حقيقة ما لابد من الظفر بها ولا بد من اكتشافها، وما تلك المقولة سوى أن ما وراء الجنون ثمة حقيقة هذه الحقيقة سنكتشفها حين نتتبع القناع الذي حين يلبسه الممثل فإنه يبوح بالمخبوء مما وراء هذا القناع.
ولذلك فقد استوظف الممثلون قناع وجه الحمار كما تُدوِلَت مفردة الحمار في النص لتكشف أكثر من مرة عما وراء الشخصيات فكل ممثل يلبس القناع تبدأ المسرحية بفضحه واكتشافه، كل من يلبس قناع الحمار يخرج ما في نفسه من عقدة ويتم تحليله وكشف ما وراءه، وكأن العرض يقول إن القناع يكشف أكثر مما يخفي وأنها لعبة البوح والسر الكشف والإخفاء ففي الوقت الذي نرتدي فيه القناع لنختفي وراءه فإن الممثلين يرتدون القناع لينكشفوا من خلاله.
فذلك الممثل الذي اتهم أو وصم زميله بمفردة حمار لإدانته، كان هو المدان في النهاية، فما إن تم تلبيسه قناع الحمار حتى تم كشف لا وعيه وتم عبر القناع اكتشاف عدد المرات التي قيل له فيها «أنت حمار» حتى أصبح كذلك وبلعبة تعويضية على طريقة علم النفس أخ يصف الآخرين بما هو فيه «رمتني بدائها وانسلت» هكذا يكون القناع كشفاً ويرينا أكثر مما يخفي. وهكذا يكون الجنون الذي هو ستر وغطاء على العقل فإنه يكون على المسرح كشفاً أكثر منه قناعاً .
وكذلك بقية الممثلين حين يلبسون القناع فإنهم يظهرون أكثر مما يخفون، عبر هذه المسرحية يبدو أننا نقول من وراء القناع أكثر مما نقول في العيان ففي الوقت الذي يمنحنا القناع طاقة الخفاء فإنه يمنحنا طاقة أخرى على البوح في أن نقول الكثير.
وحين نمارس الرقابة ونعتقد أننا غطينا ما نريد تغطيته فإننا إنما مارسنا كشفاً أكثر فحين يبوح أحد الممثلين بلفظة ما فيقوم المجموع بالتغطية عليه فإنهم لا يخفونه كما يعتقدون بل يكشفونه للعيان وينقلونه لبقعة الضوء بل ويغروننا بالمزيد في تتبعه والإمعان في الكشف والبحث عن الفضيحة التي أريد لها الخفاء.
هكذا لا تكون الرقابه سوى كشف ولا يكون القناع سوى المزيد من الظهور ولا يكون الجنون (التمثيل) سوى كشف آخر للحقيقة في هذه اللعبة المسرحية.
اشتغلت مسرحية التشخيص أولاً على ما لدى الممثلين من طاقة تمثيلية وقدرة على التواصل التلقائي مع الجمهور، وقد قالت المسرحية ما تريده بشكل مباشر ولم تلعب معنا اللعبة المسرحية في التمثيل والإيهام والتوهم إلا من خلال أدوات مسرحية مباشرة. «التشخيص أولاً» فكرة وتأليف عبد العزيز المدهش إخراج سعد العمري، بطولة ظافر الشهري، وعبد الله العبيدي، وثمثيل سعد العمري، وصهيب آل طاهر وعبد الحليم الشهري، وموسى الربمي، ديكور محمد جبران وصوت وإضاءة سليمان الرحيمان.
ولكون مسرحية «التشخيص أولا» لم تلعب معنا اللعبة الاستعارية التبادلية وتفرض على الأقل شيئاً من الغموض فإنها جاءت مغايرة عن معظم العروض التي سبقتها أو أعقبتها ولكن هذا لا يجعلنا نحرمها من قراءة ما حاولت توظيفه من أدوات مسرحية على بساطتها وتلقائيتها بل مباشرتها، وما فيها من طاقة التمسرح.
ولعله من هنا أيضا كانت المسرحية تستوظف الديكور والإضاءة بشكل مباشر إلا ما نذر في صناعة الإضحاك والفكاهة أحيانا أو الإبكاء والحزن حين سلطت بقعة ضوء على الشهري مرة أو على العبيدي مرة أخرى في نهاية المسرحية لتخلص من وراء كل تلك الحكايات والسوالف التي أضحكتنا وأبكتنا بأن هذا هو السر الذي يحمله كل من الشخصيتين ولكن أيضاً على طريقة السرد الباك رواوند.
وقد استوظفت المسرحية أكثر ما استوظفت من طاقة تمثيلية عبر تقنية الحكاية داخل الحكاية، وقد أطلق الممثلون لأنفسهم العنان مستعرضين قدرتهم على السرد في نسج الحكايات والانتقال بنا من حكاية لحكاية أخرى ولذلك لم يتوانَ كل من ظافر الشهري، وعبد الله العبيدي في استغلال أي عبارة لسرد حكاية جديدة فمع العبيدي يتم استغلال كنيته «أبو هيا» لسرد حكاية هيا وزوج هيا وشعره، ومع الشهري يتم استغلال سؤال الممرض له «مم تشتكي؟» لسرد الحكايات والشكوات وراء بعضها البعض بشكل تلقائي كاركتوري مضحك مبكٍ وقائمة الشكوى تطول ولا تنتهي «اشتكي من العم، من التجار، من الأندية الرياضية».
ولم تكن تلك الحكايات والثرثرة المستمرة من قبل الممثلين تسير عبثاً بل كانت تقدّم خلفية مشهدية وحدثاً كلامياً يسهم في صناعة الصورة النفسية لكل من الشخصيتين اللتين نكتشف أنهما ليسا سوى ضحية المجتمع في تعامله مع المريض وذويه، هما بذلك يقدمان نقداً اجتماعياً لاذعاً لطريقة تلقي المريض وذويه وعدم مراعاة حاجاتهم الاجتماعية سواء على المستوى الطبي أو على المستوى الاجتماعي.
إنها ثرثرة مفتوحة نحو نقد اجتماعي على طريقة «الكلام يجر الكلام» والحكاية داخل الحكاية وهي تقنية قديمة لعل من أهم أمثلتها و مصادرها «ألف ليلة وليلة» تلك الحكاية التي داخل كل حكاية فيها حكاية أخرى، وهذه تقنية قابلة لأن تتطور مسرحياً وإن لم نشهدها في هذه المسرحية إلا على مستوى الحوار فقط أو السرد المباشر وقد استنفذت ما لدى الممثلين العبيدي والشهري من شهوة للكلام وطاقة على الحكي وقدرة على التواصل مع الجمهور والمشافهة مع زملائهم الممثلين.
نحن في هذه المسرحية أمام نقد اجتماعي مباشر في شكل قفشات سريعة ونغزات مباشرة عبر ثرثرة تطول ولا تقصر، ولعل أهم ما يبعثك على الضحك حين تجد أي إنسان مهما كان بسيطاً فإنه حين يقف أمام الكاميرا يتحول مباشرة إلى ممثل بارع يمثل ما تريده الكاميرا منه بل ويتحول أحياناً إلى مخرج يوجه الكاميرا والمصور لاختيار اللقطة التي يريدها، وما وراء قراءة هذا من هذا المشهد أنه يقدم رسالة نقدية فحواها أن الكل أمام الكاميرا يصبح ممثلاً، ولا يقول الحقيقة بل يقول ما يراد منه أو ما يريد هو أن يقدمه للآخرين من صورة، وهنا فإن الكاميرا لا تقول الحقيقة بل تقول شيئاً آخر هو ما نريد أن يراه الآخرون أو ما يراد منا أن نقوله.
العدد 3016 - الأربعاء 08 ديسمبر 2010م الموافق 02 محرم 1432هـ