العدد 3010 - الخميس 02 ديسمبر 2010م الموافق 26 ذي الحجة 1431هـ

السياسة والإصلاح في الوطن العربي بين التمدن والتريف (2)

إبراهيم غرايبة open [at] alwasatnews.com

فالانتخابات النيابية تجري في الأردن منذ العام 1928 على نحو متواصل، والانتخابات البلدية تجري منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر، ولكن التعاطي الريفي مع الانتخابات جعلها زينة غير ضارة تضيف إلى النخب السياسية والاقتصادية مكاسب جديدة أو رمزية، أو ترفا تمارسه مجموعات مصابة بالملل من تجميع الملايين والمناصب.

وقد تكونت تجمعات واتجاهات حضرية خارج عمان العاصمة جعلت الانتخابات النيابية والبلدية تقدم حالة من الحراك السياسي والنخبوي، ولكنها تواجه حالة غريبة في التاريخ والجغرافيا، فالعاصمة وما حولها التي تستقطب نصف السكان، ومعظم النخب والاستثمارات والمؤسسات العامة والثقافية والسياسية تمضي نحو حالة من التصحر، ومصابة بتفسخ وحيرة وارتباك، وتبدو وكأنها مشغولة بمسائل وهموم غير مفهومة، فتبدو وكأنها تعيش وتعمل وتتحرك في مكان افتراضي مثل موقع على الإنترنت لا ينشئ سوى حيز فيزيائي لا يبدو سوى استراحة أو ضرورة لا مناص منها.


ظاهرة التريف في المدن والنخب والحياة العامة

تتجه المدن العربية إلى حالة من التريف، ويتبعها في ذلك السلطة والحركات السياسية والاجتماعية، والثقافة المنظمة لعملها ومواقفها، وإذا كانت المجتمعات تتجه في تطورها الطبيعي نحو التمدن باعتباره الهدف والأصل، والمسار التاريخي العام للبشرية يدل بوضوح وبداهة على التحول من الرعي والصيد إلى الزراعة ثم الصناعة، وأخيرا المعرفة، فذلك يعني بالبداهة إياها أن العودة إلى التريف أو البداوة اتجاه نحو البدائية والتخلف وعكس ما تكافح البشرية لأجله.

لقد خضعت الاجتهادات السياسية والإصلاحية حتى فهم النصوص الدينية لحالة التريف السائدة في بيئة عمل ونشاط مدينية، ومن الأمثلة المعبرة التي تختصر هذا التقدير أن رئيس الوزراء الأردني السابق علي أبو الراغب أجاب النائب الإسلامي علي أبو السكر المطالب بحق المرأة الأردنية أن تمنح جنسيتها لأبنائها في حالة كون أبيهم غير أردني: لماذا تتمسك بحق المرأة في منح الجنسية لأبنائها، وترفض حقها في طلب الطلاق؟ في إشارة إلى رد النواب (الإسلاميين وغير الإسلاميين) لقانون «الخلع» الذي يعطي المرأة حق الطلاق ولا يحصره بالرجل.

فقانون الجنسية في الأردن والدول العربية والإسلامية حق منحها يحصر للآباء، باعتبار أن الإسلام حدد انتساب الأبناء إلى آبائهم، وأما «الخلع» فقد استند المشرع في الأردن ومصر ودول عربية وإسلامية أخرى باعتباره حقا للمرأة بالنص عليه في القرآن الكريم، ورغم ذلك فقد رأى النواب الإسلاميون قانون «الخلع» مخالفا للشريعة، ومنح الأبناء جنسية أمهم موافقا لها.

المثال السابق ليس الوحيد الذي يمكن ملاحظته في تطويع الاجتهاد في فهم النصوص وفق اتجاهات مجتمعية، وأن الذين يفسرون سلوك الحركات والتنظيمات السياسية بالنصوص المرجعية، أو يجهلون السياق الاجتماعي والتاريخي الذي يحكم غالبا فهم النصوص والاجتهاد في قراءتها يقعون ويوقعون غيرهم في فهم مضلل وساذج للمجتمعات والتاريخ والصراعات.

ومما كشفت عنه الانتخابات النيابية الأردنية هو الثراء الاجتماعي والسياسي في الأقاليم خارج عمان العاصمة ومدينة الزرقاء المجاورة لها، فقد كان المرشحون ينجحون بفارق ضئيل في الأصوات، وقد حصل عشرات المرشحين في إربد والكرك ممن لم ينجحوا في الانتخابات على أكثر إلى حد الضعف من أصوات نواب نجحوا في الانتخابات في عمان العاصمة. وكان كثير ممن لم ينجح في الانتخابات يشغلون مناصب وزارية وقيادية كبرى في الدولة، حتى في دوائر البدو فقد نجح أطباء وأساتذة جامعيون شباب في مواجهة وزراء ونواب وقادة سياسيين مخضرمين.

وفي مقابل ذلك فقد كان التنافس الانتخابي في عمان أقرب إلى انعدام التنافس، وكان الفرق بين النائب الأول في الدوائر الانتخابية العمانية والنائب الذي يليه في عدد الأصوات عدة آلاف، ولولا مشاركة الحركة الإسلامية لكانت الانتخابات في عمان أقرب إلى عدمها.

كيف تكون العاصمة مركز النفوذ الاقتصادي والسياسي يقترب الحراك السياسي فيها من التوقف؟ وتكون النخب فيها والقيادات دون رصيد شعبي، ولا يكاد يعرفها أحد؟ ويكون نجاح النواب فيها يشبه نجاح الزعماء الإقطاعيين والوجهاء الريفيين في الدول العربية في فترة الخمسينيات والستينيات، وفي الوقت نفسه يكون الريف يموج بالتنافس وتداول السلطة والثراء السياسي والتعقيد الاجتماعي؟

الأمر أعقد من ذلك كثيرا، فما لا يعرفه الصحافيون الزوار للأردن، ولا يريد أن يلاحظه كتاب ومراسلون صحافيون وسياسيون كسالى ومتحيزون في عمان أن البلدات الأردنية تتجاوز فيها نسبة التعليم الجامعي الـ 10 في المئة وأن نسبة الدراسات العليا بعد المرحلة الجامعية الأولى عالية جدا تفوق الدول الغربية المتقدمة، وأن نسبة التعليم الجامعي بين البنات في الريف لا تقل عن الذكور، وقد تزيد عليها في المستقبل القريب، وفي الحقيقة فإنه في المعيار الاجتماعي لمفهوم الحضر والريف والبادية لم يعد يوجد بدو بتاتا.

ولا يكاد يوجد ريف، فيغلب على التجمعات السكانية بعيدا عن عمان كونها تجمعات تزيد على الـ5000 نسمة، ولا تخلو بلدة من مدارس أساسية وثانوية للبنين والبنات، وتستوعب جميع الأولاد والبنات في سن التعليم، بالإضافة إلى شبكات الكهرباء والماء والاتصالات والإنترنت والطرق المعبدة، وبالطبع أطباق التقاط الفضائيات وأجهزة الاتصال المتحركة، حتى جرائم الشرف فإن أغلبها يقع في عمان والزرقاء وليس في ما يسمى الريف كما يظن للوهلة الأولى.

ولكن النخب العربية على رغم عزلتها نجحت بجميع اتجاهاتها أن تجعل أجندتها ومصالحها هي نفسها اهتمام الحكومات والبرامج والنقابات والأحزاب بمعزل عن الاحتياجات والأولويات الحقيقية للوطن والمواطنين، ويتوقف الإصلاح على فرصة أن يسعفنا الحظ أو المصادفة لتلتقي مصالح النخب والقيادات السياسية والنقابية، الإسلامية منها والليبرالية والتقليدية مع المصلحة العامة أو قضايا الغالبية من المواطنين.

العدد 3010 - الخميس 02 ديسمبر 2010م الموافق 26 ذي الحجة 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً