بصراحةٍ... من زار دبي ولم يركب «العبّارة» فكأنما لم يزرها... دع عنك المجمعات التجارية المستنسخة على طريقة النعجة المسكينة دوللي!
منذ آلاف السنين، يوم لم تكن الإمارات شيئا يُذكر، كان هناك شقٌ طولي في اليابسة وسط دبي، دخله ماء الخليج فتحوّل إلى مرفأ طبيعي، أخذت تربض فيه السفن عبر القرون.
هذا الخور يفصل بين طرفي دبي وبر ديرة، حيث قلب السوق النابض. وتستخدم العبّارة (القوارب التقليدية الصغيرة) كوسيلة نقل شعبية بين الطرفين، وهي تمثل للزائر متعة في حد ذاتها، يحرص السواح على ركوبها كلما حطوا الرحال في دبي.
آخر مرةٍ ركبتها كانت قبل ربع قرن، وفي رحلتي القصيرة الأخيرة، حرصت على ألا تفوتني هذه الفرصة... وهكذا وجدت نفسي مع خمسةٍ من الأصحاب فوق متن عبّارةٍ في الليلة الأخيرة.
المباني في بر ديرة حديثة، ليس لها طعمٌ ولا لونٌ ولا رائحةٌ، لأنها مستنسخة ومستوردة من الطراز الأوروبي الحديث. أما في بر دبي فكان هناك سوقٌ شعبيٌ قبل ربع قرن، حرصت على زيارته، لأنه يمثل قلب دبي الحقيقي. الحوانيت شبيهةٌ بما نراه من بقايا الحوانيت في سوق المنامة القديمة، لكنهم هناك لم يتركوها لحركة العمران العشوائية الشرهة، وإنما رمّموها وحرصوا على صيانتها وتزيينها، للحفاظ على طابعها التراثي القديم. المشي في هذا السوق متعةٌ أخرى.
القارب ينقلك بمبلغ درهم واحد (روبية) إلى الطرف الآخر، ويذكرك ذلك بالقوارب الصغيرة التي تأخذ زوار جزيرة النبيه صالح في جولات سريعة على سواحل الجزيرة أيام الجمع والعطلات. وهناك في الليل تشاهد عشرات السفن السياحية المتوسطة تمخر عباب الماء، مضاءة ومزيّنة، وهي مصّممةٌ كمطاعم عائمة، ترى السياح فيها ملتفين حول طاولاتهم، يتناولون الطعام. الرحلة تستغرق ساعتين بكلفة تتراوح بين 120 و150 درهما، وقد تصل في بعض السفن الفخمة إلى 300 درهم (30 دينارا).
قبل ربع قرن، كانت هناك أنابيب كبيرة تقذف مخلفات المجاري إلى الخور، فتحوّله إلى مستنقع كبير. وانتبهت السلطات إلى هذه الكارثة المحدقة بالبيئة، فتم إنشاء مجارٍ حديثة لتصريف المخلّفات، وللحفاظ على البيئة، فماذا سيبقى للإنسان عندما يفرّط في بلده ويدمّر أرضه ويستهتر ببيئته؟ وما قيمة العمارات الشاهقة عندما تقوم على مستنقعات آسنة مثلما حدث في خليج توبلي المنكوب؟ ويمكنك أن تشاهد بعض فوهات المجاري (السابقة) فوق مستوى الماء، شاهدة على خطأٍ قاتلٍ تم تصحيحه - لحسن حظ دبي وأهلها - قبل فوات الأوان.
كان مرافقي الإماراتي يتحدّث عن دبي وتجربتها في الحفاظ على البيئة بكل فخرٍ واعتزاز، فيما كنتُ أتذكرخليج توبلي، وكيف حوّله الإهمال إلى مستنقع كبير؛ وكيف تم تدمير أشجار القرم التي اشتهر بها الخليج ولم يبق منها إلا بقعة صغيرة في رأس سند؛ وكيف تم تدمير البيئة البحرية ودفن السواحل والقضاء على 24 نوعا من الأسماك المعروفة بصورة نهائية خلال الأعوام الأخيرة فقط.
كانت العبّارة تتهادى على الموج، وكان مرافقي الإماراتي يتوقع منّي تعليقا بعد أن أطلت الصمت، فقلت: هل تعلم لو كان هذا الخور عندنا في البحرين ماذا كنا سنفعل به؟ فأجاب: لا. فقلت: كنا سندفنه وسيحوَّل إلى أملاك خاصة لبعض المتنفذين، وسيحوّلونه إلى قسائم سكنية ويعرضونها للبيع!
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2436 - الخميس 07 مايو 2009م الموافق 12 جمادى الأولى 1430هـ