كشف موقع «ويكيليكس» في سياق تبريره لنشر الوثائق الدبلوماسية السرية الأميركية عن فلسفة سياسية تكمن وراء هذا الفضح الذي وصفته وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون بالاعتداء على «المجتمع الدولي». فالموقع أكد رغبته في إبراز التناقض بين الموقف الرسمي وما يقال خلف الأبواب الموصدة، معتبراً الوثائق أنها تفضح طريقة تعاطي الدبلوماسيين الأميركيين التي تبقى سرية غالباً مع عدد من القضايا حساسة كانت أم لا.
وجاء موقف الموقع السياسي ليتجانس مع الوصف الذي أشارت إليه «نيويورك تايمز» التي رأت في البرقيات المرسلة من جانب الدبلوماسيين بأنها «تقدم صورة غير مسبوقة للمفاوضات الخفية التي تجريها السفارات في العالم».
إنها فلسفة سياسية قرر الموقع خوضها. فالموقع ليس ساذجاً ولا بريئاً، وليس «مجموعة لصوص» أو خبراء في القرصنة التقنية، أو فئة معزولة تطلب الشهرة والمال، وإنما قوة ضغط تريد الكشف عن حقيقة الأكاذيب والأباطيل وازدواجية المعايير والتحايل والتلاعب التي تلجأ إليها الدبلوماسية الأميركية في تعاملها اليومي مع الدول والشعوب.
الموقع مسيس ويعتمد منهجية فلسفية لا تكترث كثيراً للمصالح وتلك المعايير الحقوقية التي اعتمدتها الدول في احترام خصوصية ما يقال وراء الكواليس وفي الغرف المغلقة. وفلسفة «ويكيليكس» اعتمدت مبدأ التشهير بوصفه المفتاح الذي يفضح الوجه الآخر للدبلوماسية الأميركية التي تحرص على التظاهر بالذكاء والمرونة أو ضعف الذاكرة وقلة المعلومات بينما هي تكيل بمكيالين وتسرب المعلومات وتلعب على التناقضات وتحرض على افتعال المشكلات لتمرير خطوة واستخدام أخرى للضغط على سلطة ما بقصد ابتزازها أو تخويفها.
فلسفة «ويكيليكس» السياسية يبدو أنها نجحت في بعث رسالة قوية أربكت معظم زعماء العالم وأخذت بزعزعة ثقة الدول بالدبلوماسية الأميركية وما يتم التفاوض بشأنه خلف الكواليس. فالقادة الآن أخذوا يعيدون النظر في التعامل مع الوفود الأميركية التي تأتي لزيارتهم والاستفسار عن رؤيتهم وتحليلاتهم عن الملفات الساخنة تحت عنوان «خاص» أو «خارج التسجيل» أو «غير صالح للنشر». وهذه المراجعة بحد ذاتها تشكل ضربة موجعة للدبلوماسية الأميركية لأنها قد تتعرض لموجة رفض من زعماء العالم وقادة الدول خوفاً من انفضاح الأسرار وكشفها علناً. وعدم الثقة يعني أن القوى المعنية ستتردد في البوح بتلك الآراء التي تراودها وقد تلجأ إلى المبالغة في المجاملة والتهرب من الإجابة عن أسئلة الوفود الأميركية بشأن القضايا الحساسة.
هذا جانب من فلسفة «ويكيليكس» السياسية. الجانب الآخر من النشر كشف الخداع الأميركي في التعامل مع الأصدقاء والأعداء. فالعدو عند المصلحة صديق واشنطن إذا خدمها في تلبية حاجات أمنية ميدانية ومحددة. والصديق عند المصلحة المضادة عدوها إذ تعارضت حاجاته مع الاستراتيجية الأميركية ورؤيتها للمعادلات والتوازنات.
السياسة الأميركية التي فضحتها فلسفة «ويكيليكس» ليست جديدة وإنما هي معروفة ومتداولة في التقارير والمذكرات التي تصدر عن الزعماء بعد انتهاء ولاياتهم وتقاعدهم. الجديد في فلسفة «ويكيليكس» السياسية أنه قصر مدة الفضيحة واختصرها زمنياً من خلال توثيق التحليلات وتأكيد الثوابت وتحديد المصادر من دون اضطرار إلى ربطها «بمصادر دبلوماسية مهمة رفضت الكشف عن هويتها».
أهمية فلسفة موقع «ويكيليكس» السياسية أنه أعطى القرائن ومضابط الاتهام وكشف المستندات التي توثق التزوير والتحايل والنصب والتلاعب بمصالح الدول وتعريضها للاهتزاز والمخاطر إذا اقتضت الحاجة الأميركية إلى ذلك. واشنطن لا صديق لها ولا عدو وإنما الجميع يمكن التعامل معهم واستخدامهم في وقت واحد حتى تكون الإدارة الأميركية القوة المشرفة والمسيطرة والقادرة على التدخل أو الضغط في كل الاتجاهات سواء من طريق الصديق المعلن أو من طريق العدو المجهول.
هذه الفلسفة الانتهازية البرغماتية التي فضحها موقع «ويكيليكس» بالوثائق والمستندات والتقارير تؤكد مدى استخفاف واشنطن بمصير الشعوب وعدم احترامها للأصدقاء وتعاملها الفوقي مع كل الاتجاهات حتى تلك التي تتعمد توريطها في مغامرات بهدف استخدام «المغامرة» مادة للضغط وابتزاز الحليف واستدراجه إلى ساحات تريد التحكم بها عن قرب أو بعد.
سياسة الأبواب المفتوحة مع كل الفرقاء معروفة لدى الدبلوماسية الأميركية. فهي لا تقطع الاتصال مع الخصوم وتواصل التعامل معهم سراً وتتبادل بواسطتهم المعلومات وتكشف لهم أسماء المعارضة وعناوينها مقابل تعاون أمني بشأن هذا الفصيل أو ذاك. وهذه السياسة في التفاوض «الفني» والتنسيق «التقني» تمظهرت أكثر ما يكون في أفغانستان والعراق حين كانت واشنطن تلجأ للخصوم طلباً للمساعدة وترتيب قنوات الدعم والمكاشفة والملاحقة. كذلك ظهرت في لبنان من خلال تواصل اتصالاتها مع مختلف القطاعات السياسية من دون تمييز بين 8 و14 آذار. وبلغ التحايل الدبلوماسي طوره الأعلى خلال العدوان على بلاد الأرز في صيف 2006 حين أعطت واشنطن الضوء الأخضر لتحطيم الدولة في وقت كانت تعلن رسمياً أنها مع تعزيز سلطتها وسيادتها على كل الأراضي اللبنانية.
الانتهازية البرغماتية هي فلسفة الولايات المتحدة. وهذا بالضبط ما أراد موقع «ويكيليكس» كشفه أمام العالم من دون تحفظ أو اعتبار للمحرمات والمقدسات الدبلوماسية التي تحرص واشنطن على إخفاء معلوماتها وأسرارها لمدة عشر أو 20 أو 30 سنة وأكثر. اختزال الوقت أعطى فرصة لفضح تلك الانتهازية البرغماتية التي يسقط سنوياً من جراء التعاطي بها مئات وربما آلاف الضحايا بسبب لجوء واشنطن إلى اعتماد أجهزة المخابرات واسطة لتهريب المعلومات وقنوات سرية للتنسيق والتعاون وأحياناً أدوات للتحريض على الاقتتال كما كشفت الوثائق المتصلة بتركيا والحزب الكردستاني التركي في الأناضول (ازدواجية التعامل) أو في خطوط التواصل بين فتح وحماس والتلاعب بين السلطة الفلسطينية وقطاع غزة من خلال تمرير المعلومات المغلوطة والنصائح المسمومة.
أمثلة كثيرة يمكن سردها للتأكد من صحة الكلام عن الانتهازية البرغماتية الأميركية في جورجيا (روسيا) والصين (المعارضة) والهند (باكستان) واليمن والصومال والسودان والمغرب (الصحراء) ومصر (الأقباط والإخوان). فالسياسة المعلنة تعتمد لغة المصالحة والوساطة والتهدئة والدعم للسلطة الرسمية، بينما تكون السياسة الخفية (الأجهزة الأمنية السرية) تحرض من خلال الاتصالات القوى المعارضة على التحرك حتى تستخدمها للضغط أو التخويف أو الابتزاز. وهذا النوع من التشعب في التعامل مع قضايا الشعوب لا يعرف إلا بعد مرور فترة من الوقت تكون خلالها الضحايا أصبحت من الماضي كما حصل في إفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا في ستينات وسبعينات القرن الماضي.
فضح التناقض وكشف ما يقال خلف الأبواب الموصدة وتوثيق ازدواجية الكلام بين المعلن والسري هي فلسفة «ويكيليكس» السياسية، ومثل هذه الفلسفة الصادمة تحتاج دائماً إلى ضمانة وحماية ومظلة للاستمرار في التحدي. فهل يقوى الموقع على الصمود في وجه العاصفة؟ هذا هو السؤال.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 3008 - الثلثاء 30 نوفمبر 2010م الموافق 24 ذي الحجة 1431هـ
ما يقال وراء الكواليس وفي الغرف المغلقة. وفلسفة «ويكيليكس» اعتمدت مبدأ التشهير
انما هي1- قوة ضغط تريد الكشف عن حقيقة الأكاذيب والأباطيل وازدواجية المعايير والتحايل والتلاعب التي تلجأ إليها الدبلوماسية الأميركية في تعاملها اليومي مع الدول والشعوب.
2-واشنطن لا صديق لها ولا عدو وإنما الجميع يمكن التعامل معهم واستخدامهم في وقت واحد حتى تكون الإدارة الأميركية القوة المشرفة والمسيطرة والقادرة على التدخل أو الضغط في كل الاتجاهات سواء من طريق الصديق المعلن أو من طريق العدو المجهول.
تقرير واقعي شكرا للكاتب دكتور وليد نويهض