أنهى رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان زيارته الرسمية إلى لبنان وسط احتفالات شعبية حاشدة جرت في عكار (الشمال) وصيدا (الجنوب) دشن خلالها سلسلة مشاريع إنمائية (مدارس، مستشفيات، طرق) أشرفت أنقرة على رعايتها وتمويلها.
الاستقبال اللبناني أعاد التذكير بتلك المشاهد الرسمية والشعبية التي جرت بمناسبة زيارة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد وما خلفته من ردود فعل إيجابية وسلبية بسبب تلك التصريحات النارية التي أطلقها من الجنوب (بنت جبيل) بشأن تغيير خريطة الشرق الأوسط انطلاقاً من ساحة بلاد الأرز.
أردوغان لم يبالغ كثيراً في المراهنة على الدور اللبناني في تعديل موازين القوى الإقليمية والدولية لأنه يدرك انطلاقاً من موقعة كرجل دولة أن البلد الصغير لا يمكن تحميله أعباء ثقيلة لا يقوى على رفعها منفرداً بمعزل عن المحيط وتعاضده لمواجهة الاستفزازات والتحديات الإسرائيلية. ولكن أردوغان لم يتردد في استخدام تصريحات ساخنة بشأن الملف الفلسطيني والتهديدات الإسرائيلية بشن حرب تدمير جديدة ضد لبنان دولة ومقاومة.
البوابة الفلسطينية شكلت ذاك المدخل أو الجامع المشترك للزيارتين الإيرانية والتركية معطوفة على توجيه رسالة واضحة لحكومة تل أبيب تحذر من مخاطر العدوان وتداعياته عليها وعلى المنطقة. إلى الباب الفلسطيني لعبت الساحة اللبنانية دورها في تلوين الزيارتين بإبعاد محلية أهلية مفتوحة على منظومة إقليمية أخذت تتشكل بهدوء في إطار بدء التراجع الأميركي (التموضع وإعادة الانتشار) من العراق.
الأبعاد المحلية للزيارتين تمثلت في اختلاف الطبيعة الأهلية وتنوعها المذهبي في التعامل مع الزائرين. وأدى اختلاف طبيعة الاستقبال الأهلي إلى طرح استنتاجات وتوقعات بشأن الدور الإقليمي لكل من تركيا وإيران في مرحلة ما بعد إنهاء القوات الأميركية تموضعها العسكري في نهاية 2011. فهناك من ربط التحرك الإقليمي بوجود ضمانات دولية تؤشر إلى متانة الحماية الأمنية التي يحتاجها لبنان للوقاية من مخاطر التهديدات الإسرائيلية. وهناك من ربط التحرك باحتمال نمو التنافس بين انقره وطهران في حال تطورت الفراغات الأمنية إلى بؤر توتر أهلي قد يتصاعد دخانه من العراق ليشمل نقاط الضعف المذهبي - الطائفي في المنطقة. وهناك من ربط التحرك بإطار إمكان وجود نوع من التنسيق بين القيادتين التركية والإيرانية تشمل برنامج عمل يتضمن سلسلة ملفات ثنائية تتصل بملف الأمن والغاز وملف التخصيب النووي وتبادل الوقود وصولاً إلى ملفات تتعلق بمستقبل العراق وتقاسيم السلطة وتوزيع الحصص وما سيتركه من انعكاسات على الساحة اللبنانية ومستقبلها المهدد بالانهيار.
عموماً لم تنتهِ زيارة أردوغان من دون توجيه إشارات تحتمل أكثر من تفسير. فالزائر الذي توجه إلى عكار ليفتتح مدارس في منطقة الشمال خصص جزءاً من جولته ورعايته للتعرف على أقلية تركية لبنانية تعيش محرومة ومهملة في تلك المحافظة الطرفية البعيدة نسبياً عن المركز (الجبل والعاصمة). كذلك واجه الزائر مظاهرة احتجاجية جرت في ساحة الشهداء نظمها حزب الطاشناق الأرمني بالتعاون مع حزب العمال الكردستاني التركي تحت يافطة استنكار المجازر (العثمانية) ضد الأقلية الأرمنية في مطلع القرن الماضي والاضطهاد (العلماني) للأقلية الكردية في الأناضول.
هذه التلاوين الأهلية للزيارتين تعطي فكرة عن مدى تأثير الفسيفساء اللبنانية على لعبة الطوائف الإقليمية وربما ارتباطها العضوي بمجرى التحولات التي تشهدها دول المنطقة في سياق إعادة هيكلة دولية لخريطة الشرق الأوسط. فالخريطة كما تظهر من الصور المتلاحقة العنيفة والمسالمة في بلاد الرافدين تؤشر في مضمونها غير المعلن إلى حصول متغيرات بعد الاحتلال الأميركي وتقويض دولة العراق وتفكيك علاقاته الأهلية وشرذمتها إلى فدراليات طوائف تشبه حال دويلات «أمراء الطوائف» في الأندلس عشية انهيار ثم غياب الحضارة الإسلامية عن المشهد الإسباني.
ساحة لبنان ليست بعيدة عن العراق حتى لو كان البرزخ السوري يفصل جغرافياً بين بغداد وبيروت. فهذه الساحة بتلاوينها الأهلية تعكس صورة الأقاليم وما تمثله من توزع نفوذ يتخذ من الطوائف والمذاهب والأقليات إطارات محلية للتمدد والانتفاخ حتى لو أنكرت العواصم هذه المسألة وتجنبت الآتيان على ذكرها في الخطابات الرسمية أو الشعبوية.
العناوين الأهلية لمنظومة العلاقات الإقليمية لا يمكن إسقاطها من معادلة «الشرق الأوسط» الجديد في هياكله وتجاذباته حتى لو حافظت الدول على خريطتها الجغرافية. فالعراق بعد الاحتلال انقسم أهلياً من دون ضرورة للإعلان عن المسألة رسمياً. ولبنان بعد حروب طويلة ودائمة منذ سبعينات القرن الماضي انشطر أهلياً إلى جيوب سكانية تتحرك في وسطها جماعات الطوائف والمذاهب في أطر جغرافية تتحصن فيها الأقليات وتتهاوش إعلامياً كل يوم تحت يافطات لا نهاية لها من الأسماء والعناوين.
هذه اللوحة الفسيفسائية اللبنانية يمكن الاعتماد عليها نظرياً للتعرف على مجرى التحولات الإقليمية المشدودة لهويات الطوائف والمذاهب والأقليات. أحمدي نجاد حين زار لبنان احتفلت به فئات وبالغت في الابتهاج تعبيراً عن وجود حماية إقليمية تتجاوز حدود بلاد الأرز. وأردوغان حين زار البلاد احتفلت به فئات وبالغت في مظاهر الاستقبال لتوجه رسالة مضادة تعكس وجود مظلة إقليمية بديلة أو موازية.
التوازن الزئبقي في لعبة الطوائف اللبنانية المشدودة جغرافياً إلى أوتار إقليمية تشكل في إطارها العريض ذلك النموذج الأهلي الذي يرجح أن تدخل تحت مظلته دول «الشرق الأوسط» حين تستكمل قوات الاحتلال الأميركية تموضعها في المنطقة. فالعراق تغير ولن يعود إلى سابق عهده إلا إذا نهضت دولة وطنية جامعة تتخطى تلك التقسيمات التي افتعلتها وأسست عليها إدارة جورج بوش إستراتيجيتها التقويضية. ولأن العراق جار إيران وتركيا والسعودية والكويت والأردن وسورية وليس بعيداً عن لبنان المطل على فلسطين والبحر المتوسط، فإن الخريطة المشرقية العربية في ظل التجاذبات الأهلية يرجح أن ترتسم خطوط طولها وعرضها في وسط التلاوين الفسيفسائية التي تتشكل منها الجغرافيا البشرية للطوائف والمذاهب والأقليات.
حرص أردوغان على الانتباه (الاهتمام) ورعاية الأقلية التركية في الشمال اللبناني، وتظاهرة الأرمن والأكراد ضد التعامل السلبي اتجاههما في الأناضول، وانتفاخ النفوذ الإيراني في إطار التمدد الإقليمي المذهبي في العراق وصولاً إلى لبنان وغيرها من مشاهد عربية وفلسطينية كلها تعطي فكرة عن لوحة «الشرق الأوسط» الجديد وخريطته الأهلية الفسيفسائية التي نجح «تيار المحافظين الجدد» في رسمها بالألوان الدموية بدءاً من العراق.
زيارة أردوغان ليست بالضرورة رداً على زيارة أحمدي نجاد وليست جواباً تركياً على نمو النفوذ الإيراني وإنما هي تعبير طبيعي - تاريخي أخذ يتشكل ميدانياً بحكم التحولات والفراغات التي ولَّدها الاحتلال الأميركي للعراق وما أحدثه من تداعيات وارتدادات إقليمية في المشرق العربي. ولبنان في هذا المعنى مجرد صورة عن المشهد المقبل.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 3004 - الجمعة 26 نوفمبر 2010م الموافق 20 ذي الحجة 1431هـ