تتجه المجتمعات والحضارات في مسارها العام إلى التمدن، وكانت المدن هي مركز الحكم والثقافة والرسالات السماوية أيضا، وتعتبر ظاهرة التريف في المدن والسلطة والثقافة العربية معاكسة للاتجاه المفترض لتطور الحياة العامة والسياسية، وربما تكون من أسباب فشل التنمية والإصلاح والمشاركة السياسية والعامة.
تجمع الناس حول المكان في عقد اجتماعي هو أول وأهم خطوات ومقتضيات التحضر، فالمدن هي مركز العمل العام والاجتماعي والحضاري والإبداع، ويقتضي ذلك بالضرورة أن يكون الإنسان منتميا إلى مدينة أو تجمع حضري، فالرعاة والصيادون لا يمكن أن يؤسسوا أعمالا ومشاريع وبرامج اجتماعية وثقافية.
والفكرة الجامعة للناس حول المكان هي أساس الدول والحضارات والعمل العام؛ لأنها تنشئ مصالح وتشريعات وثقافة منظمة للإدارة والحياة السياسية والثقافية مستمدة من تفاعل الناس مع المكان، وتعاقدهم على الأمن والعدل وتحقيق المصالح والاحتياجات وفق تفاعلهم مع المكان وليس ما تقتضيه بيئة الإنتاج والحماية الأخرى المنتمية إلى الريف أو البادية.
وكانت إقامة مجتمع إسلامي أساس الدعوة الإسلامية، وسميت يثرب «المدينة» في دلالة رمزية مهمة على أن الإسلام يقوم ويعمل ويطبق أساسا في مدينة، ولا يمكن أن تكون الرسالة إلا في المدينة، فلا تنجح ولا يصح أن تكون ابتداء في القرى الصغيرة والمراعي والتجمعات المحدودة، وكان الرسول (ص) ينهى من يسلم من أهل البادية أن يعود إليها، ليبني مجتمعا مدينيا.
والناظر في أحكام الإسلام وآدابه يجدها تؤسس لسلوك مديني متحضر يستوعب المكان الذي يجمع الناس، مثل الاستئذان عند دخول البيوت، والنهي عن رفع الصوت، والتجمل والتطيب والنظافة، والاستماع، وإشهار الزواج والشهادة عليه، وكتابة الدين، والانصراف بعد الطعام، والذوق العام، وغير ذلك كثير مما ينشئ عادات وتقاليد وثقافة مكانية مدينية ومجتمعية.
والمواطنة والجنسية عقد والتزام بين طرفين، الدولة والمواطن، وتقتضي الانتماء والمشاركة وأداء الواجبات، والمواطنة ليست عرقا أو إثنية، ولكنها تقوم على المكان، فمواطنو دولة هم الذين يتجمعون حول فكرة جامعة للدولة تقوم على أساس المواطنة والالتزام نحوها والتمتع بالحقوق والفرص التي تتيحها، فالانتماء يقوم أساسا على المكان، والمواطنة والجنسية هي علاقة اجتماعية تنشأ مع المكان.
فالسعوديون أو العراقيون أو الفلسطينيون أو الأردنيون أو اليمنيون اليوم ليسوا عرقا أو جنسا أو قبيلة من الناس، ولكنهم الناس الذين استوطنوا المكان وتعاقدوا على الانتماء إليه بغض النظر عن أصلهم وجنسهم، فالفلسطينيون على سبيل المثال تسمية أطلقت على الجماعات المهاجرة من جزر البحر المتوسط واستوطنت الساحل الجنوبي للبحر المتوسط، ثم أطلقت التسمية على جميع الناس والسكان، الكنعانيين والآراميين والفينيقيين والعرب، وكانت فلسطين تعني السواحل الجنوبية ومركزها عسقلان، ولكن التسمية امتدت مكانا لتشمل ما يعرف اليوم بفلسطين العام 1917، وكانت عكا قبل ذلك مركز ولاية لبنان، وكانت طبريا قصبة الأردن، ولكن تجمع الناس وتشاركهم في مصير وقضايا ومصالح وعلى مدى الزمن غير التسميات والأماكن.
التمدن ليس حاجة ترفية أو فلسفية، ولكنها ضرورة يقتضيها نشوء المدن بالضرورة، فلا يمكن إقامة مدن وجامعات ومجالس نيابية وشركات ومصانع دون أن يصاحب ذلك ثقافة مدينية لإدارتها وتنظيمها.
والإصلاح يقوم على الطبقة الوسطى في المجتمع، من المهنيين والأساتذة والتجار والأطباء والمهندسين، والطبقة الوسطى تنشأ وتعمل وتزدهر في المدن والتجمعات الحضرية، وهي التي تمنح المكان خصوصيته الثقافية والاجتماعية والعمرانية.
والكارثة العربية تقع في استخدام الأدوات والمناهج الريفية لإدارة دول ومؤسسات ومجتمعات مدنية كبرى، فإذا كانت الثقافة الريفية أو البدوية تكونها تجمعات صغيرة قائمة على نمط معين من الإنتاج والانتماء والحماية، فلا يمكن تصور كيف ستنظم هذه الثقافة تجمعات سكانية ومهنية وسياسية كبرى ومعقدة لا يربطها ببعضها ما يربط المجموعات الصغيرة من السكان المتشاركين في النسب والمصاهرة والعمل والحياة.
ويمكن سرد قائمة طويلة جدا من التشريعات والأحداث والظواهر والكوارث والمجازر والقرارات الكبرى والاستراتيجية التي ترد إلى ما لا يجب أن يحدث إلا في تجمعات صغيرة من البيوت الطينية أو بيوت الشعر.
وفي تفسير الدكتاتورية وتسلط العسكر وحكم الأفراد يلاحظ دائما علاقة ذلك بغياب أو تهميش الطبقة الوسطى من المهنيين والبرجوازيين والمثقفين الذين يمثلون الخصائص الوصفية والتركيبية للمدينة، وبتسلط العصبيات الريفية والقبلية على الحكم والإدارة والأحزاب والجماعات.
وبالطبع فإن أول ضحايا التريف هي الديمقراطية، التي لا يمكن ترسيخها دون مدينة، وما يدور من حوارات ومحاولات للتنظير للديمقراطية، وما تبذله الولايات المتحدة على سبيل المثال من جهود تبدو غير رسمية يقوم بها دعاة إسلاميون يطوفون في الدول العربية والإسلامية ينظمون حوارات ومؤتمرات يشارك فيها مدمنون على الفنادق والمؤتمرات وقادرون على التأكيد أنه لا تناقض بين الإسلام والديمقراطية، أو يؤكدون تحرير المرأة أو ما تحدده حاسة الاتجاه لديهم مما تعودوا على فهمه وإدراكه يمضي بنا بعيدا عن الفهم الحقيقي الذي نعرفه جميعا، ولكنه للأسف لا يجد حماسا في حوارات الفنادق.
فالديمقراطية ليست هواية مثل جمع الطوابع أو حماية الطيور المنقرضة، وليست أيديولوجيا يمكن أن تجند دعاة لها وانتحاريين، ولكنها عقد اجتماعي مع المكان، وتحققها منظومة سياسية واجتماعية وشروط بيئية محيطة تجعل تنظيم الحياة السياسية والعامة عقدا تلتزم به الأطراف جميعها، وتجد فيه مصالحها، ومن دونه تضيع هذه المصالح، وتتعثر عمليات تحقيق الحاجات الأساسية، وهذا لا يتم إلا في مدينة حقيقية يتجمع فيها الناس وينظمون أنفسهم على أساس مصالحهم واحتياجاتهم، وتقوم على طبقة وسطى كبيرة ومؤثرة.
العدد 3003 - الخميس 25 نوفمبر 2010م الموافق 19 ذي الحجة 1431هـ
سياسة
عندما تنقرض الطبقة الوسطى بفعل التضحم وسوء الادارة والتخبط في اتخاد القرارات ويصبح المجتمع اقرب الى الفقر حينئذا ينصب اهتمام الناس بتوفير لقمة العيش فلا يكون للاصلاح معنى اذا لم تقترن بتحسين مستوى الدخل وليعلم القائمون عليها بانها سياسة فاشلة
سياسة
عندما تنقرض الطبقة الوسطى بفعل التضحم وسوء الادارة والتخبط في اتخاد القرارات ويصبح المجتمع اقرب الى الفقر حينئذا ينصب اهتمام الناس بتوفير لقمة العيش فلا يكون للاصلاح معنى اذا لم تقترن بتحسين مستوى الدخل وليعلم القائمون عليها بانها سياسة فاشلة