العدد 3003 - الخميس 25 نوفمبر 2010م الموافق 19 ذي الحجة 1431هـ

الـوقـوف مع المنتصـر

مغادرة ابن خلدون الأندلس (2)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

كيف تصرف صاحب المقدمة عندما علم بالخبر؟

آنذاك كان يقيم في قصبة السلطان وقصوره عندما جاءه سكان الثغر يطلبون منه التحرك والقيام بالأمر و»البيعة لبعض الصبيان من أبناء السلطان» قبل وصول قوات أبو العباس الزاحفة إلى بجاية. ورفض القيام بالأمر أو تكليف أحد أبناء صاحبه السلطان المقتول المسئولية. فابن خلدون يقرأ التاريخ ويعرف أن ما حصل هو غلبة شوكة على أخرى والمدافعة عن بجاية معركة خاسرة ومكلفة. وبدلاً من المواجهة العسكرية خرج إلى السلطان المنتصر مرحباً «فأكرمني وحباني، وأمكنته من بلده، وأجرى أحوالي كلها على معهودها» (التعريف، ص 500).

عقد ابن خلدون صفقة حتى لا يغامر بالمدينة ويهلك سكانها في سياق صراع دوري لا طائل ولا رجاء منه بين الأخوة وأبناء العم والخال. فالمسالمة (الوقوف مع المنتصر) في مثل هذه الحال أفضل بكثير من حرب لا نهاية لها بين العصبيات وداخل كل عصبية حاكمة أو راغبة بالحكم.

وإذا كان ابن خلدون يقرأ التاريخ وبدأ يعرف سر حركته وآلياته بعد تلك التجارب المريرة فإن أهل المدينة لا يعرفون معنى الانتهازية ولا يرون ما يراه «صاحب الحجابة» فأخذوا يسعون عند السلطان الجديد أبو العباس ويحذرونه منه ويحرضونه عليه. وشعر ابن خلدون بالأمر وأحس بالحذر الذي يحيط به وأن حياته معرضة للخطر «فطلبت الإذن في الانصراف بعهد كان منه في ذلك، فأذن لي بعد لأي، وخرجت إلى العرب، ونزلت على يعقوب بن علي».

يبدو أن اختيار ابن خلدون قبائل الدواودة العربية، خصوصاً حليف السلطان الغالب يقعوب بن علي أزعج أبو العباس وأثار في داخله المخاوف فظن أن «صاحب الحجابة» السابق يريد تأليف القبائل العربية وإثارتها ضده بمساعدة أهل بجاية. وتداركاً لأي احتمال لجأ السلطان أبو العباس إلى الضغط المعنوي على ابن خلدون اللاجئ عند القبائل العربية فقبض على شقيقه واعتقله في سجن بونة و»كبس بيوتنا يظن بها ذخيرة وأموالاً، فأخفق ظنه» (التعريف، ص 500).

فهم ابن خلدون الرسالة والتقط أسباب غضب السلطان أبو العباس ومخاوفه منه فقرر مغادرة «أحياء يعقوب بن علي» ليعود للسلطان الغاضب الاطمئنان ويتوقف عن ملاحقة أهله. وارتحل من جديد قاصداً بسكرة «لصحابة بيني وبين شيخها أحمد بن يوسف بن مزني وبين أبيه» (التعريف، ص 501).

شكل حادث سقوط ولاية بجاية في سنة 767هـ/ 1365م ومقتل صديقه وصاحبها نقطة تحول في حياة ابن خلدون وهو مازال في سن الشباب (35 سنة). فاكتشف أن السلطة ليست مجرد إدارة شئون الدولة وتنظيم معاملاتها وتحصيل جباياتها وتوزيع ثروتها وتأليف القبائل أو تأليبها، بل هي أيضاً مؤامرات وصراعات وتحالفات سرية وانقلابات ومغامرات ومواجهات عسكرية تتطلب الشجاعة الفردية إلى قوة الشوكة (العصبية) فأخذ يفكر بالابتعاد عن هذا الميدان والانسحاب من السياسة. لكن إلى أين، وما هو المخرج؟

تذكر صاحب تلمسان صهر صديقه سلطان بجاية المقتول الذي زوَّجه ابنته قبل مصرعه بشهور وانتقلت مع زوجها السلطان أبو حمو إلى ثغر تلمسان. وقرر البقاء في مكانه في كنف أمير بسكرة وشيخها (أحمد بن مزنى)، لكن القرار ليس فردياً وهو بحاجة إلى ظروف مجتمعة تساعد الشخص على أمرين، إما النجاح في تنفيذه أو يقوض من جديد حياته.

بعد مقتل صاحب بجاية وصل الخبر إلى ابنته فحرضت زوجها صاحب تلمسان على التحرك لأخذ الثأر. وفي الوقت نفسه أخذ أهالي بجاية يتصلون بصاحب تلمسان بعد أن استبد بهم سلطانها الجديد أبو العباس ويحرضونه الاستيلاء عليها. وقرر على أثرها السير نحوها وكسب الكثير من التأييد من القبائل وإحياء الثغر وسكانه من «زغبة بمجموعهم وظعائنهم، من لدن تلمسان، إلى بلاد حصين، من بني عامر، وبني يعقوب، وسويد والديالم والعطاف، وحصين» (التعريف، ص 501). وكادت الغلبة أن تكون من نصيب الصهر صاحب تلمسان لولا اقدام السلطان أبو العباس على استغلال تناقضات «عصبية» أبو حمو، فأرسل أبو زيان وهو أبن عم صاحب تلمسان وخصمه على رأس قوات زحفت من قسنطينة ونزلت في بني عبدالجبار «قبالة معسكر أبي حمو» فارتبكت قوات صاحب تلمسان و»تراكموا بعض على بعض، فهلك منهم عوالم» وتعرضت قواتهم للنهب من «سكان الجبل من البربر» و»خلص السلطان ومن خلص منهم بعد عصب الريق، وأصبحوا في منجاة» حتى وصل إلى تلمسان مهزوماً. (التعريف ص 501 – 502).

حتى اللحظة يروي ابن خلدون الحوادث كما حصلت مشيراً إلى انقلاب القبائل على بعضها ومزاجها المتقلب والخلافات العصبية ومنازعات أهل البيت الواحد على السلطة. لكنه يدخل فجأة إلى المسرح، و»كان السلطان أبو حمو قد بلغه خروجي من بجاية، وما أحدثه السلطان بعدي في أخي وأهلي ومخلفي، فكتب إليَّ يستقدمني قبل هذه الواقعة» (التعريف ص 502).

الاتصال به حصل قبل هزيمة صاحب تلمسان وصهر صديقه السلطان المقتول في المواجهة الثانية قرب بجاية. ويذكر أنه رفض الاستجابة لدعوات الحضور لأن «الأمور قد اشتبهت فتفاديت بالأعذار» مفضلا الإقامة، كما ذكرنا، في أحياء يعقوب بن علي التي غادرها إلى بسكرة.

مضى على نكسة ابن خلدون في بجاية حوالي السنتين تنقل خلالها واستقر في بسكرة وهو في حماية أميرها الشيخ. وعندما انهزم السلطان أبو حمو عاود صهر صاحبه الاتصال مجدداً طالباً الاستعانة بخبرته في تأليف القبائل وكسب ودها، وعرض عليه منصب الحجابة وعلامته في رسالة خطية تسلمها منه بتاريخ 769هـ/ 1367م وفيها كلمات المديح والتبجيل لمقامه الرفيع «في الفنون العلمية والآداب العربية».

وقع ابن خلدون في حيرة وأخذ القلق يطرقه من جديد، وبدا يراجع حاله وتردد بين قبول ورفض إلى أن جاء الفرج بفكرة أخرجته وأزالت عنه الحرج، لماذا لا يعتذر ويرسل شقيقه يحيى بدلاً منه بعد أن افرج عنه السلطان أبو العباس وتركه يلتحق به في بسكرة؟ وهكذا كان، فأرسل شقيقه «كالنائب عني في الوظيفة، متفادياً عن تجشم أهوالها، بما كنت نزعت عن غواية الرتب. وطال علي اغفال العلم، فأعرضت عن الخوض في أحوال الملوك، وبعثت الهمة على المطالعة والتدريس» (التعريف، ص 503). ووافق سلطان تلمسان أبو حمو على عرض ابن خلدون فذهب شقيقه يحيى وتسلم المنصب نيابة عنه. وسيكون شقيقه، الذي سيتحول لاحقاً إلى مؤرخ لأخبار الولاية، خير معين لابن خلدون في حالات الشدة.

تنهي الفقرة الأخيرة المحطة الأولى من حياة ابن خلدون وأعماله ومجموعها 37 سنة تقريباً منذ مولده في تونس وتحصيل العلم ثم العمل فيها. بعدها انتقل وارتحل وتعلم وتحمل المسئوليات في تلمسان وفاس وغرناطة وبجاية وأخيراً قرر التقاعد وعدم تعاطي الوظائف السياسي الرسمية.

قبل التقاعد والاعتزال كان لا بد أن يمر صاحبنا بفترة اختبار انتقالية حاول خلالها استعادة شيء من الطمأنينة الذي يتطلب حالات من الاستقرار النفسي والكسب المعيشي.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 3003 - الخميس 25 نوفمبر 2010م الموافق 19 ذي الحجة 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً