دَقَّ رجلٌ بابَ بيت جارنا في هَجِيْرة يوم فائت. كُنتُ أرقبُه من نافذة منزلنا. كان الرجل يتلَفَّع بهيئة الفقراء برَغم ما يجمع بينه وبين الميسورين من سمات البَدَن. فأسمال وجهه مطلِيَّة بحُمرة قرمزيّة يبثّها وَهَجُ دَمٍ يكاد يخرج من مَحبَسِه. أما كتِفاه وذراعاه فغَلِيْظَان إلى الحدّ الذي يُخفيان فيه رقبةً مدعُوكة بالشّحم. وبَطنه كامرأة كَرْشَاء مِنْ سِعَتِه حتى تكاد أزرار ثوبه تطير من مكانها من شِدَّة ما يخفيه الرجل من عافية أخذت ما لها وما لغيرها.
حين طَرَقَ الباب أخرَجَ صوتاً يُحاكي نبرة المساكين والضعفاء ليستعطف به سامعيه. وكان يمشي على هَوْن حاملاً ساقاً ومتَّكِئاً على أخرى في مشهدٍ مسرحي مُتقَن. وعندما أخَذَ من جارنا ما أخَذ، واطمأنّ أنّ الباب قد أُوْصِد استدار بسرعة يَهِمُّ إلى باب بيت آخر وكأن ساقه المعطوبة قد بَرَأَت. واصَل «المُتشَبّه بالفقراء» مسيره صوب بيت ثالث. ثم أوقَفَ بعض المارّة يسألهم العَون والمساعدة، فنهَبَ ما نَهَبْ حتى غاب عن الأنظار. ولا أظنّ أنه لم يَنَل في هذه الدقائق المعدودة أقلّ من مؤنة يومٍ أو بعض يوم.
هنا حديثٌ واجبٌ البَوح به. فالفقر والفاقَة ليست عَيباً أو مَسَبّة، لكن العيْب هو أن يأنس الواحد منا بالرّاحة والدّعَة ويكره العمل والكَسْب من عرق الجبين، ويسلك الطريق السَّهل للعيش، مُستغلاً طِيبة الناس ودماثة خُلُقها وتسابقها لفعل الخَير ليسلبها حقاً هو ليس له. بالتأكيد هناك فُقراء يعجزون عن التصرف بالدّخل ليُشبعوا به حاجاتهم من المأكل والملبس والإيواء والصحة والتعليم، فهم في حالة فقر مُطلق (حسب التسمية) لا نعنيهم بالحديث.
وهناك فقراء لا يستطيعون حتى توفير الحد المطلوب من السعرات الحرارية التي تجعلهم قادرين على البقاء على قَيد الحياة فهُم في حالة فقر مُدْقِع أو ما يُسمّى بـ Extreme Poverty حسب التعريفات الدولية التي يُمكن مراجعتها. لكن أن يأتي شخص بهيئة صاحبنا البَدِيْن، لا تنقصه صحة العمل، ويعيش في دولة ريعية تُوفّر له مجانية التعليم والصحة وغياب الضرائب المباشرة، وبها مؤسسات خيرية ثم يدّعي الحاجة فهذا مما يُسمّى احتيالاً وليس فقراً.
إنني على يقين من أن المُحتاجين لا يطرقون أبواب الناس جهاراً؛ لأنهم أعِفَّاء. إنهم يُماثِلُون أنفسهم بقول لقمان الحكيم عندما أوصى بقوله «يَا بُنَيَّ ذُقْتُ الصَّبْرَ وَأَكَلْتُ لِحَاءَ الشَّجَرِ فَلَمْ أَجِدْ شَيْئاً هُوَ أَمَرُّ مِنَ الْفَقْرِ فَإِنْ بُلِيتَ بِهِ يَوْماً فَلا تُظْهِرِ النَّاسَ عَلَيْهِ فَيَسْتَهِينُوكَ وَلا يَنْفَعُوكَ بِشَيْء». لذا فإنهم (المحتاجين) إذا التَمسوا عَوناً من مُعِين قصَدوه من وراء حُجُب. وما أكثر مؤسساتنا الخيريّة التي تُعطي من غَيْر مَنْ، وتَهب في الظلام وبعيداً عن الأضواء، وهي الأحق بأن تُسْنَد منا، وأن تُصَبَّ فيها مساعدات الناس ومَدَدُهُم، وأن يقصدها المحتاجون.
كان الأديب والكاتب المسرحي والشاعر الإنجليزي وليام شكسبير يقول «حب النفس ليس أقل ذنباً من إهمالها». وهو كلام غاية في الدقّة. إذ لا أتصوّر أن هناك أكثر من إهمال النفس عندما يُحطّم الإنسان كرامته وهو قادرٌ على حفظها وبوسائل عديدة، عِوَضاً عن ابتذالها وتسفيهها عَلَناً. ولطالما وَجَدنا أناساً يمتهنون صنائع بسيطة لكنها ذات قيمة مُعَتَبَرة وتُقِيْتُ صاحبها شهوراً وسنوات.
ولا أظنّ أن أحداً منا تُخطئ عينه ما هو موجود في الأسواق، والشوارع العامة، من نماذج للصنائع العفيفة والشريفة التي تُغْنِي وتُسمن من جوع. خلاصة القول إن هناك أدعياء للفقر فاحذروهم؛ لأن التعاطي معهم على أنهم فقراء يعني منحهم شرعية استحقاق هي في الأصل ليست لهم.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3002 - الأربعاء 24 نوفمبر 2010م الموافق 18 ذي الحجة 1431هـ
وصال
توصيف دقيق بكلمات منتقاة بعناية شديدة للحد الذي يجعل القارئ يعيش المشهد..
الربط بين من يدعي الفقر وبين هيئة جسمه، لفته مميزة من الكاتب، اذ غالبا ما يستعطفنا مثل هؤلاء بكلماتهم التي تحمل كل معاني البؤس والفقر، وبثيابهم الرثة البالية فنتصدق عليهم دون أن يستوقفنا جسده السمين الدال على عدم حاجته للمساعدة.
الفقير وغير الفقير
الصناديق الخيرية هي من يستطيع تشخيص هذا الفقير من ذاك الميسور فهي تطلب منه بيانات معينة وتزيكات وهي باعتقادي المقدار الذي يمكن يكون فيصلاً بين الفقير وغير الفقير
الحل هو أن نعطي الجمعيات ونراقبها
الحل هو أن نعطي الجمعيات ونراقبها حتى لاتصبح الاموال لعبة بيد من اراد من ابناء المجتمع
أبن المصلي
المصيبة الكبيرة فينا نحن عاطفتنا ليست بالعقل وانما عاطفتنا قلبية وهذه الطامة الكبرى وسمحوا لي أن اقول لكم هذا الغباء بعينه حيث أن هؤلاء الأشخاص يستخفون عقولنا في كل مكان وزمان ينقل لي احد الأصدقاء بأن احد الميسورين اعطى احدهم يوما من الأيام مبلغ بعدما اعلمه بانه لايملك قووة يومه وعنده اطفال وهو من ذرية الرسول ص فقام هذا الرجل الفاضل بأعطائه المبلغ ووجده بعد ساعات قلائل واقف على باب حانوت شركة الخمر يشتري بالمبلغ خمراً وهذه القصة ليست من نسج خيال وانما قصة واقعية وهذا لاينسحب على الجميع
مراجعة الحياة
مقال رائع يحاكي الواقع، وكثيرة تلك القصص على ذلك المنوال. لقد أصبح من الضرورة أن نراجع مشاعرنا وعواطفنا في الحياة، لا يمكن أن نهمل العقل في التفكير والتمحيص في المواقف الحياتية.
كما ذكر القرىن الكريم هناك المحتاج ولكنه يتعفف ولا يمد يده للناس، كما أن الجمعيات والهيئات الخيرية كثيرة وهي كفيلة لتنظيم مسألة المساعدات المادية والعينية لمن يحتاجها. فلو الكل امتنع مع هؤلاء لتم القضاء على هذه الظاهرة.
كريم راشد
وما العمل
وما العمل ؟ وكيف يمكنك التيقن من الشخص كونه فقيرا او محتالا كما ذكرت؟
تزوير في كل شيء
يعني التزوير صار في كل شيء حتى في الحزن والفقر والحصول على الشهادات والمراتب العلمية
وصف
وصف روائي رائع جدا