العدد 3002 - الأربعاء 24 نوفمبر 2010م الموافق 18 ذي الحجة 1431هـ

نص التنوير لـ «كانط» دشن احتفالهم بيوم الفلسفة العالمي

أصدقاء الفلسفة يستعيدون «أجورا» اليونان في متحف قلعة البحرين

في يوم الفلسفة العالمي الذي اعتمدته منظمة اليونسكو الخميس الثالث من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من كل عام، والذي وافق هذا العام الثامن عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، اهتم عدد من المثقفين من أصدقاء ومحبي الفلسفة أن يحتفوا بالفلسفة على طريقتهم الخاصة وذلك عبر تنظيمهم لعدد من الفعاليات الثقافية «المختلفة» على مدى أسبوع كامل. أولى تلك الفعاليات انطلقت مساء الخميس 18 من الشهر الجاري بقراءة نص التنوير لـ «كانط» وهو محور الجلسة التي اختار لها أصدقاء الفلسفة موقع مقهى قلعة البحرين لكي تكون طلِقة ومتحررة من عزل الجدران ومفتوحة على البحر (بحر قلعة البحرين) والناس. ربما أرادوا استعادة الحالة اليونانية للفلسفة، عندما كانت الفلسفة حوارات مفتوحة غير معزولة ولا منكفئة، بل مفتوحة على الناس وعلى ساحات الجدل العامة، المعروفة بـ «أجورا».

ساعد على التحرر من عزل الجدار، الطقس الذي بدأ يخرج عن حالة قصوره من الحرارة والرطوبة، إلى جماله الخاص. كان عدد المشاركين قد تجاوز العشرين، فيما راحت كراسي المقهى تنحسر عن طاولاتها لتنضم إلى دائرتنا التي راحت تتسع...


ما التنوير؟

في أولى المحطات قرأ الكاتب والناقد علي الديري جزءاً من افتتاحية نص كانط التي تشرح مفهوم «الأنوار» بأنه خروج الإنسان عن حالة قصوره أي عجزه عن استخدام فهمه دون توجيه الآخرين وهي حالة قد يكون مسئولاً عنها، إذ إن سببها قد لا يعود إلى عيب في الفهم، وإنما يرجع إلى غياب القدرة على اتخاذ الموقف والشجاعة في استخدام الفهم دون قيادة الآخرين. وبحسب الافتتاحية التي كانت إجابة لكانط نفسه على سؤال طرحته مجلة «بري لنش مونتشريفت» الألمانية على مجموعة من الفلاسفة والمفكرين في نوفمبر 1784 حول الأنوار، فإن شعار الأنوار يتلخص في عبارة «اجرؤ على استخدام فهمك الخاص».


سياق التنوير

بعدها بدأ الحوار مع الكاتب محمد ديتو حول السياق التاريخي لنص كانط، إذ أوضح السياق التاريخي والفكري الذي كتب ضمنه نص كانط المكتوب في أواخر القرن السابع عشر هو سياق مهم يتعين الإلمام به لمن يرغب في فهم النص بصورة صائبة. وبحسب ديتو إن «صحيفة «برلين الشهرية» كانت المبادر إلى طرح سؤال «ما التنوير؟» على مجموعة واسعة من الفلاسفة والمفكرين في ألمانيا، وإن أصل السؤال يرجع إلى ملاحظة هامشية كتبها القس «يوهان فريدريك تسولنر» في مقالة له في الصحيفة المذكورة يدافع فيها عن ضرورة الالتزام بالتقاليد والطقوس الكنسية في الزواج، ويعارض فيها فكرة الزواج المدني، لتشتهر ملاحظة القس لاحقاً بأنها أهم ملاحظة هامشية في تاريخ الفلسفة.

ويضيف ديتو «استمرت المناظرات على صفحات الصحيفة المذكورة لمدة عامين، وكانت إجابة «كانط» أشهرها رغم مداخلات أخرى مهمة للغاية، أبرزها وجهة نظر الفيلسوف «موسى منديلسون». قامت مجلة «ألمانيا الشهرية» بنشر تحليل لحصيلة النقاشات وتوصلت أن هناك ما يقارب عشرين تعريفاً تم استعراضهم خلال المناظرات، بدءاً من تعريف يقول فيه إن التنوير هو المرادف لموضة الملابس الفرنسية، وانتهاءً بتعريف «كانط» الذي شخص فيه التنوير بوصفه الحالة التي يمتلك فيها الفرد الشجاعة للخروج من القصور الذاتي إلى التفكير باستقلالية عن أية وصاية خارجية على عقله.

ويشير ديتو إلى أن الفقرة الأولى في نص «كانط» هي التي اشتهرت خلال القرون اللاحقة حتى زمننا الحاضر، وعلى الرغم من محاولته التوضيح بين حالة التنوير الفردي والمجتمعي والفرق بينهما إلا أن ذلك لايزال موضوع سجال مستمر حتى الآن. وأخيراً أشار إلى أنه من الخطأ الفادح اختزال كل عصر الأنوار بمقالة «كانط» فقط، كما إنه من غير الممكن إدراك حجم التحولات المرتبطة بذلك العصر بمعزل عن تقدير نص «كانط» بالذات، مفيداً بأنه لا مفارقة أو تناقض في الأمر، لأن التراث الفكري والفلسفي لعصر الأنوار يتسم بالتنوع والاتساع ويشمل كافة ميادين المعرفة، كما إن نص «كانط» أبرز الأهمية الحاسمة لشرط الاستقلالية للفرد في تنويره العقلي.


قراءتان

بعدها تحدث الكاتب والمترجم محمد المبارك عن قراءته الخاصة لنص كانط مشيراً إلى أن أول ما يمكن ملاحظته هو «أنه لا يبدو نصاً فلسفياً متعمقاً، بل هو أشبه ببيان عن موقف من مسألة عملية». وأفاد المبارك بأن كانط يشرح في النص معنى أن يكون المرء متنوراً وأهمية أن يصير المجتمع في النهاية مجتمعاً متنوراً. ورأى أنه لإيفاء هذا النص حقه لا بد من مقاربته عبر قراءتين، الأولى: قراءته ضمن سياق حركة التنوير الأوروبية في القرن الثامن عشر الميلادي والتي جاء النص تعبيراً عن بعض حراكها. ورغم أن كانط كان ينتمي بلا شك إلى معسكر التنوير، لكنه لم يكن بطبعه ثورياً. جاء جواب كانط على سؤال التنوير نداءً للحرية وللانعتاق من الوصاية الفكرية والدينية، وربما يمكن عدّه جماهيرياً، لكنه في النهاية كان نداءً هادئاً يفتقر إلى الحرارة الثورية.

القراءة الثانية كما يقدمها المبارك، تتضمن محاولة «ترجمة» النص وتفسير عباراته حسب ما نراه ينطبق منها على أوضاعنا المعاصرة. ومعاصرة هذا النص تتمثل في جانب منها بإمكانية مقاربته عبر التفكير في المعالجات المعاصرة للمفاهيم الكانطية التي أشار إليها النص واستند إليها في حجاجه رغم أنه لم يناقشها باستفاضة البحث الفلسفي مثل: الفهم (وهو مفهوم ربط به كانت في كتاباته الفلسفية بين العقل المحض والإدراك بالحواس والتجربة)، والتمييز بين الفضاء العام والخاص، والحرية (وهي مجال الأخلاق عند كانط، ومجال ما ينبغي أن يكون في مقابل فهم ماهو كائن).

وأخيراً فإن سؤال التنوير مايزال معاصراً بالنسبة لمجتمعاتنا كما يري المبارك، رغم أن صعوبته صارت أضعاف ما واجه كانت ومعاصريه، فما دام المجتمع يغذي قصور الفرد ويجرّم الاستقلال في الفكر فلن نستطيع العبور إلى ضفة التنوير، مع أنه لم يعد كافياً الآن أن نصل إلى تلك الضفة، فأمامنا بعدها طريق طويل لكي نصبح مجتمعات فاعلة في الحياة المعاصرة.


توسيع المجال العام

وحول التنوير الفردي والمجتمعي الذي أشار إليه ديتو في مداخلته، وحول لا ثورية كانط التي أشار إليها المبارك، أوضح الديري أن نص كانط، كان يحمل هم توسيع المجال العام، توسيع ما أسماه بـ (الاستخدام العمومي للعقل في جميع الميادين) بتحريره من المؤسسات والقواعد الأخلاقية. والمفارقة أن كانط كان في سلوكه منضبطاً إلى حد أن الناس كانت تضبط ساعاتها على وقت نزهته الرياضية اليومية، وكان أخلاقياً من جهة تربيته الدينية المنضبطة التي تلقّاها من مؤسسة أمه التربوية. لذلك لا يمكن أن نقول إن كانط كان ثورياً في دعوته للتنوير، بل كان منضبطاً وهذا جعل من نصه يعاني قلقاً في حدود العلاقة التي كان يريد أن يرسمها بين استخدام العقل الخاص داخل المهنة والمؤسسة واستخدام العقل العام داخل المجتمع وساحاته المفتوحة. وكي نستوعب هذا القلق علينا أن نضع نص كانط في سياقه التاريخي حيث المؤسسات السياسية والدينية الأخلاقية تدافع عن وجودها وتعتبر نفسها وصية ومالكة للنور الإلهي الذي يمكّنها وحدها من تنوير الناس، وفي المقابل هناك كانط وفلاسفة التنوير الذين يدعون لإحلال النور الطبيعي الأرضي في الإنسان كي يفهم الأرض وقوانينها بنور عقله الأرضي. فكانط كان يريد أن يستبدل قواعد أمه الأخلاقية المستمدة من نور الكنيسة بقواعد عقله المستمدة من نور ضميره الخاص وكان يريد أن يضبط ساعة تريضه بزمنه الخاص لا بزمن السماء التي تحدد للناس كيف يجدولون زمنهم.


ازدواجية العام والخاص

لكن الكاتبة باسمة القصاب، رأت أن قلق كانط الذي أشار إليه الديري في مداخلته، ربما جعل من النص يعاني من ازدواجية تبدو مخلة في مفهوم التنوير. ففي الوقت الذي يُرجع فيه كانط غياب التنوير إلى غياب القدرة على اتخاذ الموقف والشجاعة في استخدام الفهم دون قيادة الآخرين، ويطالبنا بالجرأة على استخدام فهمنا الخاص، ويذهب إلى أن المؤسسات والقواعد الأخلاقية، هي الوسائل الآلية التي تسهر على استخدام سيء للمواهب الطبيعية، فإنه لا يلبث في الجزء الآخر من النص يطالبنا باستخدام مجتزئ لعقولنا (خاص وعام) ويأتي بمثال القس الموكل إليه تعليم المقبلين على التنصر وفق تعاليم الكنيسة التي يخدمها، بأن عليه أن يلتزم بذلك لأنه قبل المهمة تحت هذا الشرط، لكن من حيث هو كائن عارف فإنه يتمتع بكامل الحرية، وأكثر من ذلك أن يبلغ الجمهور كل أفكاره بأخطاء هذه التعاليم. ثم أضافت: كيف يمكن أن يكون يكون تنويراً حين يعلم الإنسان ما لا يتوافق مع معرفته التي يعتقد بها؟ حين يكون رهين المؤسسة التي مطلوب للوصول إلى التنوير الخروج من هيمنتها؟


بعد 100 عام

ومن المداخلات المهمة في الأمسية تلك المداخلة التي أدلى بها الأستاذ الجامعي ثروت الحسيني في رد على تساؤل لديتو حول أهمية طرح سؤال «ما التنوير» بعد ما يقارب 100 عام على بدء عصر التنوير في أوروبا، إذ رأى الحسيني أن «التنظير دائماً يأتي بعد أن تكون الحركات الثورية أو التطويرية قد قطعت شوطاً، وقبل أن يكون هناك حدث ما لا نستطيع أن ننظّر له».

وأضاف بأنه «رغم وجود الملك المستنير فريدريك العظيم وفلاسفة عظام مثل كانت إلا أن المجتمع في وعيه العام لم يكن مستنيراً وقد عزت باسمة القصاب هذه النتيجة إلى احتمالية عدم شعور المجتمع بقصوره أصلاً، لذلك لا يسعى إلى الخروج عن حالة القصور تلك «لو سلمنا بصحة ما افترضته فإن هذه إشارة دالة على عجز الآليات المستخدمة من قبل الحكومة والنخب في ألمانيا آنذاك في الوصول إلى عامة الناس وزرع فكرة التنوير في عقولهم، وهو ما يقودنا إلى العودة إلى النقطة رقم (1) والبحث في سبل توصيل الفكر المستنير إلى جموع الناس لقتل التعصب والزيف والخرافة التي تحل محله عندما يغيب».


التنوير العربي

ديتو طرح إشكالية فشل حركات التنوير في عالمنا العربي وأرجعها لكون «مثقفينا إيديولوجيين، والتنوير ضد الأدلجة»، لكن الحسيني رد على ديتو متسائلاً «هل كان طه حسين مؤدلجاً؟! ولماذا لم نجده يتغنى بالإيديولوجية التي سيطرت على الساحة أيام جمال عبدالناصر كما فعل غيره؟! هل كان المستنير نصر حامد أبوزيد مؤدلجاً مثلاً؟!» مضيفاً «أعتقد أن النخب المثقفة لاسيما في محيطنا العربي تعيش منعزلة ومنطوية على نفسها، ما يقلل من فرص تأثيرها في المجتمع، وإحداثها التنوير الكامل له وهو الهدف الأسمى. صحيح أن كانت أشار إلى جوهرية التنوير على مستوى الفرد، لكننا نجده يقول صراحة إنه من العسير على الفرد أن يتحرر بمفرده من التبعية التي أصبحت له طبعاً وخلقاً. ومن هنا تبرز أهمية الانخراط في المجتمع وهو ما نجحت فيه النظرية الماركسية أدباً وفناً واجتماعاً وسياسية أكثر من الفلسفات المثالية».

العدد 3002 - الأربعاء 24 نوفمبر 2010م الموافق 18 ذي الحجة 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً