العدد 3002 - الأربعاء 24 نوفمبر 2010م الموافق 18 ذي الحجة 1431هـ

الزرادشتية والنسطورية: من الرهبنة إلى العلمنة

أشرنا في فصل سابق إلى أنه بحلول العام 486م أصبحت النسطورية المذهب الرسمي لجميع الكنائس في فارس, إلا أن هناك أحداثاً عديدة وقعت ما بين إدانة نسطوريوس وهذا العام, حيث استغلت السلطة السياسية للدولة الساسانية رجال دين نساطرة لتلميع وإسباغ المذهب بسبغة فارسية لتزيد من الفرقة بين الطوائف المسيحية خاصة بين تلك التي تعيش ضمن حدود الدولة الساسانية والأخرى التي تعيش ضمن حدود الدولة البيزنطية, وقد وجد بعض رجال الدين النساطرة في ذلك فرصة لينتقموا مِن مَن اضطهدهم حتى وإن اضطر الأمر ببعضهم ليتحول من الرهبنة إلى العلمنة على حد وصف ألبير أبونا في كتابه عن تاريخ الكنيسة الشرقية (أبونا 1985, ج1 ص101). في هذا الفصل سنتناول تلك الأحداث والسياسات وكيف أثرت على أبرشيات الجزر التي منها أبرشية مشماهيج.


مدرسة نصيبين الأولى

كانت نصيبين Nisibis مدينة تاريخية تقع حالياً ضمن حدود تركيا، وفي العام 298م كانت المدينة ضمن حدود الدولة البيزنطية (O>Leary 1979، p. 35) وقد أصبحت المدينة مقعداً كنسياً قرابة العام 301م وقد كان (بابو) أول أسقف فيها (O>Leary 1979، p. 35) وقد تلاه الأسقف يعقوب أفراهاط الذي اعتبره البعض صاحب الفضل في تأسيس مدرسة نصيبين الأولى حيث استهوته شهرة مدرسة أنطاكية التي كانت تشبه مدرسة الإسكندرية في ذلك الوقت، فأسس مدرسة مماثلة في نصيبين وذلك في العام 325م وكان هدفها هو نشر اللاهوت اليوناني بين المسيحيين الذين يتكلمون السريانية، وبعد وفاة الأسقف يعقوب واصل مار أفريم الدور الذي بدأه مؤسس المدرسة وسار على نهج أستاذه حتى بلغت المدرسة في عهده مبلغاً عظيماً من الشهرة، وظل يدير المدرسة بدأب ونشاط حتى العام 363م حيث أُغلقت المدرسة بعد سيطرة الفرس على مدينة نصيبين (الجمل 2005) حيث تم في هذا العام إعادة المقاطعات الخمس التي استولت عليها روما العام 298م إلى السلطة الساسانية وعلى إثر ذلك اضطر العديد من أساتذة وطلاب هذه المدرسة ومنهم مار أفريم إلى الرحيل عن مدينة نصيبين وقصدوا مدينة الرها (O>Leary 1979، p. 36).


مدرسة الرها

الرها مدينة تاريخية تقع حالياً في شمال شرق سورية ضمن حدود تركيا وهي تعرف أيضاً بمدينة اورفا وعرفت لاحقاً في العصور الكلاسيكية باسم إديسا (Edessa)، وقد كانت هذه المدينة في السابق تقع ضمن حدود الدولة البيزنطية. وقد كانت الرها أهم مراكز اللغة السريانية، ولما دخلتها المسيحية في مستهل القرن الثاني اكتسبت هذه اللغة نفوذاً سما بها إلى أن يُنقل إليها الكتاب المقدس، وأن يتخذها المسيحيون لغة لهم، وتصبح الوسيلة المعبرة عن الثقافة المسيحية (الجمل 2005).

وقد قامت مدرسة الرها على أكتاف أساتذة نصيبين الذين هجروها سنة 363م بعد سقوطها في أيدي الفرس، وكان القديس أفريم السرياني المتوفى العام 375م أحد هؤلاء الأساتذة ويرى بعض المؤرخين أن مدرسة الرها كانت قائمة قبل مار أفريم إلا أنها ازدهرت وذاع صيتها بعد العام 363م تحت رعاية مار أفريم، وعلى ذلك يمكن القول بأن إدارة مار أفريم لمدرسة الرها (363م – 373م) كانت بمثابة بداية حقبة جديدة في تاريخ تلك المدرسة (الجمل 2005).


بداية النسطورية في الرها

في قرابة العام 412م عين ربولا أسقفاً لمدينة الرها وعين هيبا (إيهيبا) رئيساً لمدرسة الرها (O>Leary 1979، p. 38). وبعد أن تبنت الامبراطورية الرومانية الفكرة المتوسطة بين ذوات الطبيعتين وذوات الطبيعة الواحدة في العام 431م تم إدانة نسطوريوس بالهرطقة ونفيه، وقد أقر الشرقيون أيضاً بذلك وحرموا نسطوريوس ووافقوا على عزله إلا أن هناك أنصاراً لنسطوريوس منهم ثيودوروس المصيصي حيث أصبحت مؤلفات المصيصي التفسيرية أساساً لتطور الأفكار النسطورية لدى السريان، والمعروف أن تفسير الكتاب المقدس كان المهمة الرئيسية والأساسية التي قامت عليها الدروس والبرامج التعليمية في مدرسة القرون الوسطى ذات التخصص الديني (بيغلوسفكايا 1979، ص290).

وقد تبنى هيبا أفكار ثيودوروس المصيصي أما ربولا فقد ناصر أفكار المصيصي في بادئ الأمر ثم عدل عنها (O>Leary 1979، p. 39)، إلا أن هيبا واصل بث أفكار المصيصي في مدرسة الرها، مما أدى لإغلاق المدرسة في بادئ الأمر وذلك العام 431م لاتباعها أفكار نسطوريوس إلا أن مدرسيها تابعوا التدريس فيها، وقد كان هناك إشكال كبير حول هذه المدرسة فهي تعتبر مدرسة نسطورية بينما تعتبر مدينة الرها نفسها مضادة للنسطورية (O>Leary 1979، p. 41).


هيبا ونشر النسطورية

يعد هيبا (توفي العام 457م) من أبرز شخصيات مدرسة الرها وأبعدها أثراً على تطور فكر هذه المدرسة ونشاطها وقد نشطت حركة الترجمة خلال فترة إدارته للمدرسة حيث اعتنى بترجمة المنطق الأرسطي وشروحه إلى اللغة السريانية وإليه يرجع الفضل في نقل الدراسات الفلسفية والدينية الإغريقية إلى السريان وقد ظل هيبا مديراً للمدرسة حتى اختير العام 435م أسقفاً لمدينة الرها في أعقاب وفاة أسقفها السابق ربولا، أما بالنسبة لإدارة مدرسة الرها فيرى البعض أن هيبا اختار تلميذه «برصوما» (415م - 496م) ليحل محله في رئاسة المدرسة ويرى البعض الآخر أن هيبا اختار تلميذه العلامة نرساي (399م - 502م) (الجمل 2005).


برصوما ونرساي

كان برصوما فارسي الأصل وعبداً (لرجل مارا - المترجم)، وقد تحول إلى المسيحية ودرس في مدرسة الرها ثم أصبح وعدد من أصدقائه الفرس أتباعاً مخلصين لهيبا (بيغلوسفكايا 1979، ص290). وفي العام 457م توفي هيبا وقد خلفه نانوس الذي تعامل بشدة مع النساطرة في مدرسة الرها مما أدى لهروب عدد من مدرسيها والعودة لداخل حدود الدولة الساسانية وقد كان برصوما أحد الذين هربوا في ذلك العام (O>Leary 1979، p. 41). أما نرساي فقد بقي مديراً لمدرسة الرها حيث واصل ما بدأه أستاذه هيبا من ترجمة أعمال مفكري مدرسة أنطاكية، كما وضع شروحاً لأجزاء من العهد القديم، واتسمت فترة إدارة نرساي للمدرسة بانتشار التعاليم النسطورية على نطاق واسع، مما أدى إلى تعرض المدرسة لكثير من الصعوبات والتي انتهت بإصدار قرار من الامبراطور الروماني «زينون» بإغلاق المدرسة العام 489م بسبب طابعها النسطوري (الجمل 2005).


مدرسة نصيبين الثانية

هاجر العديد من معلمي مدرسة الرها إلى مدينة نصيبين بعد أن تعرض أنصار التعاليم النسطورية في مدرسة الرها لأشكال مختلفة من الاضطهاد بسبب الخلاف المذهبي الذي وقع في المدرسة بسبب أفكار نسطوريوس، وقد وجد هؤلاء المهاجرون في مدينة نصيبين ملجأ ومستقراً لهم، إذ كانت المدينة آنذاك تحت سيطرة الدولة الفارسية والتي رحبت بالوافدين من الرها وقدمت لهم العون لتضمن ولاءهم لها في صراعها مع الدولة الرومانية التي كانت تسيطر على مدينة الرها في ذلك الوقت. وقد تمت الهجرة إلى نصيبين على عدة مراحل، مرحلة هاجر فيها بعض المعلمين ومنهم برصوما العام 457م ثم تبعه نرساي في العام 471م ثم تبعه عدد كبير من تلاميذ المدرسة (الجمل 2005)، وكان ذلك في زمن ملكها فيروز (457 م - 484 م)، وكان لهؤلاء دور بارز في نشر الأفكار النسطورية في فارس وكذلك إعطاء سبغة فارسية لها، وقد حظي برصوما بمكانة رفيعة في نصيبين فصار مطراناً لنصيبين نفسها، وعندما قدم نرساي إلى نصيبين طلب برصوما منه أن يفتح مدرسة في نصيبين عوضاً عن مدرسة الرها، وقد لعب برصوما دور المعلم الرئيسي في مدرسة نصيبين ونظم لائحة بمواد الدروس والفروض التي يجب أن يسير عليها المعلمون والتلاميذ ولهذا أفرد تاريخ مدرسة نصيبين (أكاديمية نصيبين) لبرصوما صفحات أساسية مجللة بالاحترام (بيغلوسفكايا 1979، ص290).

وقد اعتمدت المدرسة في البداية على تلاميذ مدرسة الرها ومعلميها ممن هربوا إلى نصيبين، وفي غضون فترة وجيزة كان عدد كبير من طلاب العلم في المناطق المحيطة بنصيبين قد توافدوا على مدرستها نظراً لشهرة مديرها العلامة نرساي حتى وصل عدد تلاميذ المدرسة - في عهده - أكثر من ألف تلميذ (الجمل 2005).


من الرهبنة إلى العلمنة

عندما وصل برصوما إلى فارس استقبله بابواي جاثليق الكنيسة الشرقية وعرفه على الملك الساساني فيروز والذي جعله من المقربين لديه (O>Leary 1979، p. 42). وقد عرف برصوما أن يكتسب بدهائه عطف الحاكمين الذين استغلوه لأغراضهم السياسية، فقد أعطي برصوما مهمات مختلفة كالإشراف والمتابعة مع ملوك العرب ومرزبان فارس وغيرها حيث إن برصوما كان مطلعاً على الشئون الرومانية، وكان من رعايا المملكة الفارسية، فارتبط بروابط الصداقة مع مرزبان المقاطعة، ونال حظوة لدى الملك فيروز حتى أصبح أحد مستشاريه، وهذا ما جعل من برصوما خبيراً في السياسة أكثر منه مطراناً، وأخذت تصرفاته تتسم بطابع العلمنة وأخلاقه تتردى حتى أجاز لنفسه معاشرة راهبة اسمها «ماموي» (أبونا 1985، ج1 ص101).

واستطاع برصوما أن يقنع الملك فيروز بضرورة نشر المذهب النسطوري في كل فارس وبذلك يضمن انفصالاً تاماً للفرس عن الامبراطورية الرومانية، وفي الفترة (457م - 484م) جد برصوما في نشر أفكار النسطورية حتى بدا وكأن المسيحية النسطورية هي الديانة الرئيسية الثانية في الدولة الساسانية. ولم يقف بارصوما عند هذا الحد بل قام بتغييرات جذرية ليفرق بين النسطورية والمسيحية الرومانية ومن تلك التغييرات أقر ضرورة زواج الأساقفة، إلا أن برصوما لم يكن الجاثليق في حينها ليتخذ مثل هذه القرارات الخطيرة، وقد كان بارصوما يخطط لأن يكون الجاثليق خلفاً لبابواي لأن الملك لجنبه ويدفعه ويشجعه في كل خطوة يخطوها، إلا أن مخطط برصوما لم يكتمل فقد توفي الملك فيروز العام 484م (O>Leary 1979، p. 42). وقبل وفاته قام الملك فيروز بإعدام بابواي جاثليق الكنيسة الشرقية بعد أن فتن عليه برصوما وذلك العام 484م (أبونا 1985، ج1 ص106).


إعطاء النسطورية سبغة فارسية

بعد موت فيروز تسلم سلطة الدولة الساسانية الملك بلاش (484م - 488م) ولم يكن برصوما يلاقي أذناً صاغية لدى هذا الملك، ورأى المسيحيون الفرصة مؤاتية فانتخبوا لهم جاثليقاً خلفًا لبابواي، وكان هذا المنتخب «أقاق» الذي كان من خريجي مدرسة الرها وزميلاً لبرصوما في هذه المدرسة (أبونا 1985، ج1 ص108)، وبذلك أبعد برصوما عن الرئاسة لما عرف عنه من مشاكل. إلا أن برصوما غير من سياسته وأظهر رغبته في التفاهم مع الجاثليق الذي وافق على التفاهم معه وقد وصلت المفاوضات لنتائج إيجابية، ولكن يبدو أنها جاءت لتخدم مخططات برصوما حيث أصدر الجاثليق حزمة من القرارات والقوانين منها أن يتم برصوما أسقفاً لمدينة نصيبين وتشريع قانون تزوج الأسقف، وهكذا استطاع أن يمرر برصوما ما يريد عبر أقاق وقد تم إقرار ضرورة تزوج الأسقف رسمياً في مجمع أقاق (أبونا 1985، ج1 ص110 - 114). وقد توفي بارصوما قبل العام 497م إلا أن وفاته لم توقف سياسة إعطاء السبغة الفارسية للنسطورية (O>Leary 1979، p. 46).


أبرشيات الجزر والسبغة الفارسية

لم تكن جزر البحرين بعيدة عن كل تلك الخلافات حيث إن سياسة إعطاء السبغة الفارسية للنسطورية تضمنت أيضاً إدخال اللغة الفارسية ولم يكن برصوما وحده الذي يعمل على ذلك حيث تشير المراجع إلى أن مطران حاضرة ريو أردشير معنا الثاني الفارسي المولد قام بترجمة تراتيل غنائية وقصائد وأناشيد دينية لتغنى في الكنيسة وذلك من السريانية إلى الفارسية، وبما أن أسقفيات الجزر، ومنها أسقفية مشماهيج وأسقفية دارين، كانت تابعة لكرسي ريو أردشير كما أسلفنا في الفصل السابق، فقد قام معنا الثاني بإرسال ترجماته الفارسية لتلك التراتيل والقصائد للمسيحيين في تلك الجزر وذلك في العام 490م (بوتس 2003، ج2 ص1021).


انشقاق الكنيسة الشرقية

توفي الجاثليق أقاق العام 496م وخلفه على الكرسي الجاثليق باباي (497م) الذي دعا إلى مجمع أكد فيه ما جاء في مجمع أقاق من قوانين، ويعتبر هذا المجمع الحاسم الذي قرر مصير الكنيسة الشرقية وانفصالها الإداري عن الغرب وتبنيها المذهب الشرقي (أبونا 1985، ج1 ص120). ومن بعد باباي أصبح شيلا جاثليقاً لكنيسة الشرق (503م). وقد أحدث شيلا ما لم يحدثه أحد من قبله فقد جعل ممتلكات الكنيسة لابنه وجعل من قريبه اليشاع خليفة له، كان لهذا الحدث أثر بالغ في تفكيك المجتمع النسطوري فبعد موت شيلا في العام 524م انتخب فريق نرساي كجاثليق لكنيسة الشرق، وبالمقابل كان هناك العديد من المناصرين لاليشاع وهكذا حدث الانقسام في كنيسة الشرق والمجتمع النسطوري بأكمله (O>Leary 1979، p. 46). وقد كانت هناك عدة أحداث موازية لسنوات الركود والانشقاق في الكنيسة الشرقية والتي كان مسرحها الجزيرة العربية التي انفصلت سياسياً عن الدولة الساسانية وهذا ما سنناقشه بالتفصيل في الفصل القادم.

العدد 3002 - الأربعاء 24 نوفمبر 2010م الموافق 18 ذي الحجة 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً