الغضب الفلسطيني من الصفقة الأميركية التي قضت بربط إعادة إحياء المفاوضات لمدة ثلاثة أشهر مقابل رشوة مالية وعسكرية هائلة له ما يبرره. فالاحتجاج الرسمي الفلسطيني جاء رداً على القسمة غير العادلة بين العودة إلى المفاوضات من دون ضمانات لنجاحها أو تمديدها وبين جوائز الترضية لحكومة الثنائي نتنياهو - ليبرمان بوصفها تعتبر خطوة ناقصة في سياق مداولات غير مجدية سوى تقطيع الوقت واستهلاك الفرص.
مطالبة الجانب الفلسطيني الولايات المتحدة بعدم الربط بين المفاوضات والاستيطان الجزئي والمحدود ضمن مهلة زمنية مسألة محقة، لأنها تريد التأكيد على وجود قانون مستقل لا صلة له بموضوع المساعدات المالية والعسكرية والاقتصادية التي تقررها واشنطن دورياً وسنوياً منذ أكثر من أربعة عقود لحكومات تل أبيب. فالمساعدات لا تعني الشعب الفلسطيني وحقوقه وحقه في العودة وبناء دولة مستقلة ذات سيادة وقابلة للحياة في الأراضي المحتلة العام 1967. وإذا كانت المساعدات تقوي «إسرائيل» وتشجعها على الاستعلاء ورفض التفاوض وتهديد دول الجوار بالانتقام والاجتياح فإنها أيضاً تلقي بثقلها على المفاوض الفلسطيني وتعطل عليه إمكانات استرداد ما نصت عليه المعاهدات والاتفاقات والقرارات الدولية.
المساعدات (الدعم غير المشروط) الأميركية كانت ولاتزال تشكل عقبة في سياق المسار التفاوضي لكونها ترسل إشارة خضراء خاطئة للحكومات الإسرائيلية تشجعها على رفض التجاوب مع مبادرات المصالحة والسلام. كذلك تساهم في إضعاف الطرف الفلسطيني وعدم قدرته على تحمل النتائج المترتبة ميدانياً عن مواصلة الاحتلال السير في سياسة الاستيطان وقضم الأراضي وعزل الناس داخل جدار الفصل العنصري وتقطيع أوصال الضفة الغربية وتفريغ القدس من أهلها.
إعادة الإدارة الأميركية ربط المساعدات بالمفاوضات من خلال رهن الطرف الفلسطيني ومقايضته لاسترضاء حكومة تل أبيب يشكل فعلاً ضريبة مضافة تزيد من معاناة الناس وتعطل على السلطة إمكانات المناورة في هامش زمني ضيق واستثناءات تعطي «إسرائيل» ذريعة للمماطلة والانتقاء حتى تنال حصتها من الصفقة (الرشوة) من دون أن تتمكن رام الله من الحصول على ضمانات دولية تلبي الحد الأدنى المعقول والمطلوب لتبرير عودة المفاوضات أمام الشارع.
هذه القسمة غير عادلة فعلاً، لأنها تقوم على قاعدة خاطئة في التعامل السياسي مع طرفين. فالمفاوضات أساساً ليست بين واشنطن وتل أبيب حتى تقدم الولايات المتحدة إغراءات تقلب عسكرياً التوازن الاستراتيجي (طائرات حربية متطورة لا يمتلكها الحلف الأطلسي). أميركا هي الحكم - الوسيط بين طرفين. والتفاوض المطلوب إنعاشه هو بين رام الله وتل أبيب وبالتالي فإنه ليس من حق واشنطن كسر المعادلة كذلك ليس من مصلحة الطرف الفلسطيني الموافقة على عودة المفاوضات تحت سقف الشروط الإسرائيلية والمساعدات الأميركية.
فك الارتباط بين المسألتين يعتبر من المطالب المتواضعة، لأن المساعدات الأميركية لا علاقة لها بمضمون المفاوضات ولا مساحتها أو توقيتها، لكونها سياسة قديمة اعتمدتها واشنطن منذ أن تعهدت بضمان أمن «إسرائيل» وتعزيز قواها حتى تكون متفوقة على مجموع الدول العربية المحيطة بها. وهذا التعهد الذي عرَّض الاستراتيجية الأميركية إلى مخاطر أمنية في الشرق الأوسط لا يمكن أن يكون البديل الموضوعي عن التفاوض وما يتضمنه من حقوق مشروعة للشعب الفلسطيني لا تسقط بفعل التقادم الزمني ولا يمكن التراجع عنها مهما حاولت تل أبيب تغيير المعادلات السكانية أو تعديل المعالم الجغرافية والتاريخية.
الحقوق الفلسطينية غير قابلة للتفاوض سواء انقطعت المساعدات الأميركية أو تضخمت أو تضاعفت. وهذه النقطة الجوهرية تشكل قاعدة ثابتة في مجرى العملية التفاوضية بغض النظر عن موازين القوى العسكرية وضعف الجانب الفلسطيني وعدم قدرته على انتزاع حقوقه بوسائل أخرى. فالمسألة ليست مرهونة بالقوة والضعف، لأن الحق الفلسطيني يقوم على معادلة تتجاوز موازين القوى وتتصل مباشرة بميزان العدالة وما يمثله من ثوابت لا تسقط بتقادم الزمن أو سياسة تقطيع الوقت أو تقطيع أوصال الأراضي المحتلة.
منطق العدالة في مواجهة منطق القوة يشكل الأساس الحقوقي للمفاوض الفلسطيني بينما منطق القوة تعتمد عليه حكومة تل أبيب للتهرب من المسئوليات وشراء الوقت والكسب غير المشروع للأرض أو المساعدات الأميركية.
بين المنطقين هناك قسمة غير عادلة تعتمدها واشنطن وهي في النهاية لن تكون في مصلحة الولايات المتحدة وسياستها ولن تخدم «إسرائيل» على الأمد الطويل باعتبار أن معادلة الضعف والقوة لا يمكن أن تشكل البديل التاريخي عن خيار العدالة وما تمثله من حقوق ثابتة. هناك في النهاية قوانين لها صلة بالجغرافيا ومدى قدرة «إسرائيل» على الاستمرار في سياسة القلعة (الغيتو) في محيط بشري يتقدم على رغم العثرات والعقبات. والتقدم الهادئ والبسيط يعني تراجع «إسرائيل» حتى لو نجحت في التهرب من التعامل الإيجابي مع الحقائق الموضوعية واكتسبت نقاط قوة من تقويض العراق واستنزاف الثروات العربية واستخدمت الغطاء الأميركي للتهويل والتهديد.
المعادلة ليست لمصلحة «إسرائيل» في نهاية الشوط، لأن قانون القوة يخدم إلى فترة محددة ولكنه لا يستطيع أن يحتل موقع العدالة ويغير التاريخ. فالجدار العنصري الذي رسمت تل أبيب خطوطه لفصل الشعب الفلسطيني عن بعضه والعالم لن يعوض ذلك الفارق النسبي بين تراجع منطق القوة وتقدم منطق العدالة. وسياسة الجدار التي اتبعتها موسكو في برلين (ألمانيا الشرقية) أكبر دليل على النهاية المتوقعة إذ لم توقف مجرى التغيير الذي تجاوز الحائط ثم جرف تلك الحواجز بين الشطرين. كذلك حصول تل أبيب على أحدث الطائرات الحربية المتطورة تقنياً لن يكسر المعادلة ويعطي الحصانة التاريخية لبقاء «القلعة» خارج نطاق الجغرافيا ومحيطها.
حتى الآن لاتزال «إسرائيل» تتحرك داخل أسوار القلعة ووراء جدار الفصل العنصري ولم تستطع الخروج من سياسة الغيتو (الانكفاء والانغلاق) ما يجعلها تتخوف من الانفتاح والمصالحة والسلام وتطالب بالمساعدات والتعويض مقابل صفر من التراجعات والتنازلات. وهذه العقلية الانطوائية تشكل عقبة أمام المفاوض الفلسطيني في الأمد القصير ولكنها تشكل خطراً على «إسرائيل» في الأمد الطويل. فهذه «الدولة» التي بدأت «علمانية» في الخمسينات تحولت رويداً إلى «أصولية» في مطلع القرن الجاري ما أدى إلى نمو هجرة معاكسة من داخل القلعة إلى خارجها ودخول موجات من المستوطنين تعتمد سياسة التعصب التي تدفع نحو الدمار الذاتي بحيث أصبحت الموجات الأولى من المهاجرين لا تقوى على تحمل مضاعفاتها وتبعاتها.
المشكلة إذن سترتد على الذات وستنقلب على الداخل الإسرائيلي الذي إذا استمر هكذا يسير على القانون التراجعي فإنه لا محال سيتقهقر إلى الوراء وسيتدحرج باتجاه العنف لا ضد محيط القلعة فقط وإنما بالضد من الوظائف الأيديولوجية التي تأسست عليها القلعة أيضاً. بهذا المعنى العام من حق الشعب الفلسطيني أن يغضب ويعلن احتجاجه الرسمي على سياسة أميركية لاتزال تصر على تشجيع «إسرائيل» على التهور انطلاقاً من مبدأ «قسمة غير عادلة».
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 3001 - الثلثاء 23 نوفمبر 2010م الموافق 17 ذي الحجة 1431هـ
الغيتو
هذا الغيتو استمر منذ 1948 و مازال مستمرا علمنا التاريخ ان العقل البشري مهما حاول من تحديث و ابتكار و (تزويق) لنزعات الاستعلاء و الاستعمار و التنكيل بالاخر فالنتيجة الحتمية الوحيدة التي تنتظرة هي التلاشي و الانحسار ليكون مجرد درس من مجمل الدروس التي يعيد البشر احيائها بصيغة مغايرة لشدة الحمق و الغرور تناسيا لسنن الحياة التي تجري عليه شاء ام ابى و على الرغم من طول عمر هذا الكيان الغاصب المغتصب الا ان ماله معروف و ان طال الزمن
عجبي!
الا زلت استاذي تبحث في هذا الموضوع.... لقد اسمعت اذ ناديت حيا و لكن لا حياة لمن تنادي..... كيف بربك تريدهم ان يفصلوا بين المسألتين؟
ببساطة كيف يعيش الاخوة المفاوضون في الجانب الفلسطيني؟ من تبرعاتنا مثلا؟