النقاط الأربع التي توافق عليها قادة قمة «الحلف الأطلسي» التي أنهت أعمالها في لشبونة أمس الأول تؤكد مجدداً تراجع الأهمية الاستراتيجية لدول الحلف بسبب عدم وجود بدائل تبرر استمراره في التوسع الجغرافي مقابل تدني المهمات والمسئوليات.
القمة تفاهمت أولاً على أن العداء مع روسيا الاتحادية انتهى بنهاية «الحرب الباردة» وأن قيام «السلم البارد» لا معنى له في ظل نمو نزعة التقارب بين موسكو وعواصم الغرب. كذلك توافقت ثانياً على عدم الإشارة إلى إيران بالاسم في بيانها عن «الدرع الصاروخي» بناءً على نصيحة تركية حتى لا تؤدي المسألة إلى إثارة نوع من الانقسامات المفتعلة التي يمكن الاستغناء عنها في مرحلة تستعد الدول الأوروبية إلى التضامن وتسهيل مهمة نشر شبكة الصواريخ. وتفاهمت القمة ثالثاً على ضمان مد شبكة الصواريخ وتوسيع دائرتها بالتفاهم مع روسيا من دون تحديد الأسباب الدافعة لاتخاذ مثل هذه الخطوة العسكرية التي اتفق القادة على إدراجها تحت مظلة دفاعية للحماية من هجوم مفترض من طرف مجهول الهوية والعنوان. وأقرت قمة لشبونة رابعاً خطة انسحاب من أفغانستان تبدأ في صيف 2011 وتنتهي في مطلع 2014 وقعتها مع الرئيس حامد قرضاي لتشكل الخطة ذلك الاتفاق الإطاري الذي يتم بموجبه التراجع عن لعب الدور الرئيسي في العمليات العسكرية الجارية في بلاد الأفغان.
النقاط الأربع مهمة ولكنها في مجموعها العام ترسل إشارات مبكرة عن بدء تراجع وظيفة الحلف الأطلسي التي اتخذت من مهمة التصدي لهجوم قد يقوده الاتحاد السوفياتي على أوروبا الغربية ذريعة لتبرير وجوده. هذه المهمة الاستراتيجية التي تأسست عليها العقيدة العسكرية للحلف في ظل الانقسام الأوروبي والثنائية الدولية والحرب الباردة تعرضت للتفكك بعد انهيار المعسكر الاشتراكي واضمحلال محور دول «حلف وارسو».
تبعثر الحلف الشرقي في تسعينات القرن الماضي وانضمام بعض دوله إلى «الأطلسي» أسقط بداية الذريعة التي قام الحلف الغربي على أساسها، ولكنه جرى البحث منذ تلك الحقبة عن عدو بديل يؤمن الغطاء الأيديولوجي المطلوب ويعطي المبرر المقنع للاستمرار في سياسة افتقدت عناصرها الوظيفية. وخلال مجرى البحث عن البدائل اكتشف قادة الحلف مخاطر محتملة تهدد استقرار أوروبا وأمنها، فكانت الذريعة الأولى هي احتواء الفوضى الناجمة عن انهيار المعسكر الاشتراكي وظهور نزعات قومية متطرفة في البلقان تهدد الأقليات وتعرضها للاقتلاع (تفكك الاتحاد اليوغسلافي وانشطاره الأهلي). وبعدها كانت الذريعة الثانية التي تمثلت في نمو ظاهرة «الأصولية» وما يتفرع منها من شبكات إرهابية تزعزع الأمن الدولي وتهدد مصالح الدول إلى ضربات مجهولة تقوم بها هيئات غير منظورة. وترافقت المخاوف من مخاطر متأتية من العالم الإسلامي مع نمو هواجس من احتمال يقظة روسيا الاتحادية وعودتها إلى لعب دور تقويضي في أوروبا ينافس الحلف الأطلسي على النفوذ من جانب ويعمل على إعادة إحياء بقايا عناصر الحرب الباردة من جانب آخر.
هذه الهواجس التي جرت في سياق تصادمي عنيف في صربيا والبوسنة وكوسوفو، ثم انتقلت بعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 إلى إعلان الحرب الدولية على الإرهاب وخوض معارك استباقية ضد بؤر العنف والدول المارقة (أفغانستان والعراق) وأخيراً شن مواجهة مفتعلة في جورجيا مترافقة مع إعلان البدء في نشر الدرع الصاروخي في تشيخيا وبولندا... كلها جاءت في خطة إطار لتبرير وظيفة «الحلف الأطلسي» وإعادة إنتاج مهمات قتالية تشكل في مجموعها ذريعة كافية لإقناع دافع الضرائب بوجود مخاطر تهدد أمنه واستقراره.
الآن وبعد أن رحل «تيار المحافظين الجدد» عن البيت الأبيض قبل نحو السنتين بدأ قادة الحلف يفكرون بمراجعة تلك البدائل التي تبرر الوظيفة والدور والحاجة إلى مظلة عسكرية تضمن التعايش الدولي واستقرار أوروبا وأمنها. فالهواجس المفتعلة تراجع وميضها حين اتخذ الرئيس باراك أوباما قرار تصحيح السياسة الدولية للولايات المتحدة وتصويب نزعة التسلط والانفراد بالقرار وعدم احترام مصالح الدول الكبرى وخصوصاً روسيا والصين.
خطوات أوباما التراجعية تم صوغها بدبلوماسية هادئة وذكية. فهي قررت الانسحاب على مراحل (التموضع وإعادة الانتشار) من العراق وأفغانستان بعد انتهاء المهمات القتالية، وهي اتجهت نحو التفاوض مع الكرملين وتوصلت إلى صوغ اتفاق استراتيجي يتعلق بالسيطرة على ترسانة الصواريخ وهو يحتاج إلى توقيع الكونغرس ليصبح ساري المفعول قبل نهاية السنة الجارية. وأخيراً قررت تطمين موسكو إلى خطة الدرع الصاروخي من خلال إدخال روسيا في إطار الشراكة الدولية ومساهمتها في التعاون لتطوير الشبكة وتوسيع مجالها الجغرافي لتكون بذلك قوة مضافة تشرف على منظومة الدرع ومهماته وأهدافه.
إعلان الرئيس الروسي ديمتري مدفيديف في اختتام قمة لشبونة بحضور قادة 28 بلداً أن مرحلة التوتر الأخير في العلاقات بين الحلف وروسيا ولَّت الآن، وإعلان الأمين العام للحلف اندرس فوغ راسموسن أن روسيا وافقت على التعاون التقني مع مشروع الأطلسي للدرع الصاروخي باعتبار أن الحلف وروسيا لا يشكل كل منهما تهديداً للآخر، وأخيراً نفي أوباما أن تكون لروسيا مصلحة في تهديد الغرب عسكرياً أو اقتصادياً.
كل هذه التفاهمات الإيجابية بشأن التعايش بين روسيا والحلف ودخول موسكو على خط الشراكة الأمنية والمشاركة في تقنية مشروع نشر الدرع الصاروخي تشكل في مجموعها خطوات متقدمة تلغي تلك السياسة الهجومية التي اعتمدها جورج بوش الابن، إلا أنها في إطارها البعيد تؤكد تراجع الحاجة إلى «الحلف الأطلسي» الذي بات يضم في مقاعده معظم الدول المعادية التي بررت أساساً وظيفة تشكيله. فالحلف الذي اخترع الأزمات والأعداء وافتعل الحروب واتبع سياسة التدخل والتقويض وأثار المخاوف والهواجس والمخاطر من البلقان أو القوقاز أو روسيا أو العالم الإسلامي والإرهاب الدولي بدأت دوله المؤسِّسة تتراجع عن تلك المهمات والوظائف والأدوار. حتى الدرع الصاروخي الذي لم يشر إلى إيران بالاسم بات يشكل مظلة أمان دفاعية تدخل في إطارها تركيا وروسيا وغيرها من دول أوروبية وغير أوروبية.
إذن ما هي المبررات التي تعطي ذريعة كافية للاستمرار في استثمار الأموال في حلف بدأ يفقد بريقه ووظيفته؟ الحرب الباردة يقال إنها انتهت ولن تعود، والسلم البارد لم يتشكل حتى يأخذ إطاره السياسي، كذلك الحروب في البلقان والقوقاز لم تعد تثير الرعب أو تقض مضاجع الخوف، وتهمة الإرهاب ضد الإسلام لم تعد تشكل تلك القنوات السياسية للضغط النفسي وإثارة العصبيات والقلاقل والعداء للعالم الآخر، ومعركة ملاحقة خلايا العنف في بؤرها الأصلية لم تعد مجدية بعد أن أعطت نتائج سلبية ومدمرة بسبب انتشار البؤر وتوسعها وانتقالها إلى وسط إفريقيا وساحل البحر الأحمر، وقرار الانسحاب من العراق بدأت أميركا بتنفيذه وخطة التراجع من أفغانستان وقعه الأمين العام للأطلسي... كل هذا جرى خلال السنتين الماضيتين إذن ما هو مبرر الاستمرار في التمسك بهيكلية حلف فقد وظيفته وتراجعت مهماته وأخذت تضمحل مع تعاقب الزمن.
النقاط الأربع التي توافق عليها قادة الحلف في لشبونة مهمة ولكنها ليست كافية لتغذية الذريعة خصوصاً أن التفاهمات توصلت إلى نزع صواعق التفجير مع روسيا في الإطارات السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية.
كل الذرائع لا تبرر وظيفة الحلف الأطلسي إلا إذا اتخذت تلك الإشارة التي صرح بها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بالاعتبار والجدّية. ساركوزي أعلنها بوضوح أن «خطر الصواريخ اليوم متمثل في إيران». فهل يعني أن ذريعة بقاء الأطلسي (الحلف العسكري والدرع الصاروخي) لم تجد ما يبرر وجودها سوى صواريخ إيران للاستناد إليها؟ السؤال لا يحتاج إلى جواب طويل ومقنع في اعتبار أن الذريعة المفتعلة لتأكيد الوظيفة ليست إلا «كذبة» جديدة من العيار الثقيل وهي تحاكي تلك المهمات المختلقة التي استخدمتها واشنطن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك معسكره الاشتراكي. باختصار المهمة الجديدة قد تكون وهمية وواهية وكاذبة ولكنها ترسل إشارات عن أن المخاطرة والمغامرة والمخاوف المفترضة لاتزال تشكل مادة طيّعة لدى قادة قمة لشبونة للتذرع بها بشأن ضرورة وجود «حلف أطلسي» والتمسك به.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2999 - الأحد 21 نوفمبر 2010م الموافق 15 ذي الحجة 1431هـ