المؤشرات تتجه في غالبيتها إلى ترجيح احتمال التصادم العنيف في السودان في حال فشلت الأطراف في تفكيك الخلافات الموضعية قبل إجراء الاستفتاء في مطلع العام 2011. فالمشكلة القائمة ليست جغرافية (شمال - جنوب) ولا دينية (مسلم - مسيحي) ولاسياسية (خلافات حزبية بين الفريق الحاكم في الخرطوم والسلطة الحاكمة في جوبا) وإنما هي أكثر تعقيداً بسبب التداخل الحاصل بين القبائل الجنوبية الممتدة شمالاً والقبائل الشمالية الممتدة جنوباً. فالتقسيم المراد يبدو أصعب بكثير من توحيد السودان.
العامل القبلي (اللوني - الثقافي) يشكل صاعق التفجير المحتمل لدفع العلاقات نحو مواجهات لا تقوى السلطة السياسية في الخرطوم على احتواء تداعياتها، وبالتأكيد لن ينجح الحزب الحاكم في جوبا في السيطرة عليها. فالتقسيم الذي يراد منه تحاشي الاقتتال قد يؤدي من دون إرادة القوى المتحكمة بالقرار إلى انزلاق السودان إلى فتنة أهلية وانزياح القبائل إلى منافسات محلية في محاولة لبسط النفوذ على مساحة جغرافية تعطي قوة ذاتية لسيادة القبيلة على مواطن رزقها ومعاشها.
احتمال المواجهة هو المرجح حتى لو أعلن حزب «المؤتمر الوطني» الحاكم في الخرطوم عن توصله إلى اتفاق مع شريكه «الحركة الشعبية لتحرير السودان» الحاكم في جوبا. والاتفاق السياسي الذي قيل إنه يمهد الطريق نحو الطلاق الوردي - السلمي يحتوي على ألغام قد تنفجر في لحظة إعلان نتيجة الاستفتاء، لأن «المؤتمر الوطني» يراهن على أن التصويت سيكون لمصلحة الوحدة بينما «الحركة الشعبية» تراهن على الانفصال (الاستقلال). وهذه المراهنة المزدوجة تحمل في أعماقها برميل بارود جاهز للاشتعال في حال قرأ كل فريق نتيجة الاستفتاء بالاتجاه المعاكس لتوقعاته.
التضارب في المراهنة على النتيجة يعني تضارب المصالح بين طرف يتوقع الوحدة وآخر يرجح الانفصال. وهذا بحد ذاته يشكل نقطة تصادم بين القوتين الشمالية والجنوبية.
إلى تضارب المصالح (التوقعات) هناك الاختلاف المزمن على القضايا المؤجلة وهي تتركز الآن على نقطتين: الأولى لها صلة بملف منطقة أبيي، والثانية لها صلة بملف المواطنة أو من هو الشمالي في الجنوب ومن هو الجنوبي في الشمال.
تأجيل النقاش بشأن أبيي تلقى معارضة من قبيلة دينكا نقوك التي تداعت إلى مؤتمر تشاوري في جوبا أعلنت في نهايته عن عشر توصيات قد تفجر الاقتتال بينها وبين قبائل المسيرية. فالمؤتمر التشاوري أعلن بوضوح عن رفضه تأجيل الاستفتاء في أبيي، وهدد بإجراء تصويت من طرف واحد يمنع بمقتضاه قبائل المسيرية من دخول أبيي أو البقاء فيها وعدم السماح لرعاة المسيرية من الرعي في مناطق الدينكا.
التوصيات تؤكد وجود عوامل ميدانية (موضعية) أقوى من إمكانات الحزب الحاكم في جوبا على ضبط الانزياح نحو المواجهة باعتبار أن الدينكا تمتلك مقومات السيطرة البشرية في مناطق نفوذها. وهذا يعني أن احتمال تهديد المسيرية بالطرد من بلدة أبيي ومنعها من الرعي والتنقل في الأراضي الخصبة يصبح المرجح في حال فشلت القوى في ترسيم الحدود وحفظ حقوق كل فريق سواء على مستوى الاستقرار أو على مستوى حركة التواصل والمواصلات.
تأجيل التفاهم على هوية أبيي قد يفتح الباب باتجاه الاندفاع نحو التصادم القبلي بين الدينكا والمسيرية للسيطرة على مناطق الرعي التي تشكل مصدر رزق لمختلف الفئات التي تعيش في تلك الدائرة. فالمسيرية بطبيعة الحال لن تقبل بنتيجة سياسية تقرر طردها من أرضها أو قطع رزقها وتشريد أبناء القبيلة وتشتيت وحدتها. والدينكا التي تتعامل الآن مع حق المسيرية في الرعي بوصفه من الأعراف المتوارثة في إطار الدولة السودانية ستسقط هذا الحق لكونه يتعارض مع مفهوم «المواطنة الجديدة» الذي يفترض أن التقسيم سيكرسه في بطاقات هوية غير سودانية.
هوية جديدة
الهوية الجديدة قد تلعب دورها السلبي في توليد تعارضات قابلة للتناحر على الخط الفاصل بين الشمال والجنوب وداخل كل قطر لما يتضمنه من شبكات قبلية ممتدة بين الولايات. فالشمال مثلاً ليس موحداً في هويته ويحتاج إلى مشروع تنمية بعيد المدى حتى يتجانس مصلحياً. كذلك الجنوب ليس موحداً في هويته. والدينكا القبيلة الأكبر والأقوى ليست الوحيدة التي تتحرك في مناطق تتكاثر فيها القبائل المتنوعة في ألوانها وثقافاتها. فهناك إلى جانب الدينكا مجموعات أهلية مثل قبائل أولينانغا وتوباك وشالاميني في مقاطعة توريت في ولاية شرق الاستوائية تتخوف من نتائج الاستفتاء إذا حرمها من حقوقها السياسية وأعطى الدينكا صلاحيات استثنائية ترفع من نسبة تدخلها في مناطق الآخرين.
المسألة إذاً معقدة وهي تتطلب معالجة دقيقة تتخطى التبسيط الذي يختصر المشكلة بالانفصال بين الشمال والجنوب. فالتداخل الحاصل في النسيج القبلي يشبه السجادة الملونة في خيوطها المتقاطعة طولاً وعرضاً الأمر الذي سيعطل إمكانات التقطيع من دون أوجاع وآلام واحتمال نزوح قبائل وطرد جماعات أهلية ومنع أخرى من حق المواطنة بذريعة ظهور هوية جديدة ولكنها غامضة وغير واضحة في تحديد شخصية الجنوبي واختلاف مواصفاته عن الشمالي.
حتى الآن مثلاً لم يتوافق «المؤتمر الوطني» مع «الحركة الشعبية» على توضيح خريطة المواطنة وموضوع هوية نحو مليون ونصف مليون جنوبي يعيشون في الشمال وتحديداً في العاصمة الخرطوم. كذلك لم يتم التفاهم على مصير القبائل الشمالية التي تعيش أو تنتشر في الجنوب وكيف ستتعامل معها السلطة الجديدة في جوبا. وهذا الاختلاف على تحديد الهوية والعناصر المضافة التي ستتألف منها سيشكل قوة نارية قد تلهب الاصطراع على منطقة أبيي وامتداداً إلى ولاية شرق الاستوائية.
أسوأ ما تشهده التحضيرات الجارية بشأن تسجيل الأسماء للتصويت في استفتاء التقسيم هو تبسيط المشكلة والتعامل معها بخفة سياسية لا تحسب احتمالات الارتداد نحو التقاتل والتصادم والانفجار. وهذا التبسيط الذي تشرف عليه الأمم المتحدة تعزز بتلك القرارات السطحية التي توصلت إليها هيئة التحكيم الدولية حين تركت الأبواب مفتوحة لترسيم حدود منطقة أبيي ما أعطى فرصة للتأويل والتفسير والتناحر على الضرع والزرع.
إلى عدم وضوح شريط ترسيم الحدود بين الشمال والجنوب قبل الاستفتاء والاختلاف على تحديد هوية أبيي، تظهر في الأفق خلافات مضمرة على تعيين النقاط الحدودية الخمس المختلف عليها حتى الآن. مضافاً إليها مخاوف من ظهور خلافات غير منظورة بشأن التفاهمات الشفهية على موضوعات التعامل بالجنيه السوداني وقيمته التداولية في سوق الصرف والتبادل التجاري إلى فترة محددة، كذلك تصدير النفط ومرور الأنابيب من الجنوب إلى الموانئ ومصافي التكرير في الشمال، وقضايا الديون ومن يدفعها، وتسهيل انتقال البضائع ومرور المواطنين على الحواجز والجمارك وغيرها من حقول تمس أمن الأفراد وحرية المواصلات وجداول المياه والأنهار ومحطات الكهرباء ودفع الفواتير والضرائب.
مسألة الاستفتاء تبدو خطيرة وهي ليست المفتاح السحري لحل كل المشكلات المعقدة والمتداخلة التي تشبه خيوط شبكة العنكبوت. والتبسيط الذي تحرص بعض الجهات الدولية والمحلية على إظهاره علناً لا يعكس حقيقة الأمر في الميدان. فالميدان مفتوح على احتمالات، والمؤشرات في غالبيتها تتجه نحو التصادم ليس بين الشمال والجنوب على الحدود أو في منطقة أبيي فقط وإنما على امتداد خطوط التداخل القبلي - العنكبوتي في ولايات الجنوب وعلى ضفاف النيل وامتداداته النهرية - القبلية في ولايات الشمال. فالمخاطر المتوقعة من التقسيم أعقد بكثير من أزمة التوحيد
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2998 - السبت 20 نوفمبر 2010م الموافق 14 ذي الحجة 1431هـ
أحسنت على هذا التحليل
منذعقود مضت و السودان يعاني من مؤامرات الغرب لتقسيمه و الكل يعرف حركات التحرر و دخول إسرائيل على الخط في أفريقيا و أزمة مياه النيل و العمل الدؤوب لأجل إخضاع مصر لواقع خطير لأمنها القومي كما تمكنوا منها قبلا في مسألة زراعة القمح. يبدو أن الخطط القديمة الإستعمارية مازالت تعمل على قدم و ساق و هذه المرة بالقانون الدولي الذي يعمل دائما و أبدا لصالح الشيطان الأكبر و الشيطان الأصغر.
كل ذلك يحدث من راس الحليف الامريكي في تفكيك الدول العربية والاسلامية والقادة العرب صامتون؟؟؟
اي عاقل يستوعب مايحدث في دمج وتوحيد الاقاليم والدول اما التفكيك فانه يصاب بالدهشة؟؟اقول ان التعاضد والمساعدة لاي دولة تحتاج الى دعم مفقود؟؟؟ السودان حاليا واليمن في الطريق وقبلا العراق والصومال والحبل على الجرار ؟؟؟ليتحرك القادة اوالدول العربية الاخرى لحماية وحدة الدول العربية فالدور اتي عليكم وتذكروا قصة الثور الاسود والابيض