في البُلدَان الغارقة في المُشكلات يزداد السَّخط على السياسيين. يسهُل اتهامهم بالفشل، كما يَسهُل اتهامهم بالفساد وسوء إدارة السلطة والثروة معاً. وربما تُصبح تلك السيمفونية أصْلَح الوسائل وأسلمها بالنسبة للمعارَضَات السياسية التي تقبع في الظِّل، ليبقى دفاع السياسيين ممن هُم في السلطة بعبارات لا تزيد عن أن هذا الخطاب للخصوم هو «اتهام سياسي وافتراءات، ولغة تنطوي على التخوين، ولها أهداف انتخابية».
في أحوال السياسة العراقية الداخلية تفيض تصريحات السياسيين بتلك العبارات. وهي باعتقادي إن صَدَرَتْ من عِنْدِيات مَن هُم في الحُكم أم المعارضة فهي لا تحمل أيَّ صِدقيّة تُذكر، أو على أقل تقدير مشكوك في أصلها وفصلها. فالدولة العراقية بمؤسساتها الحالية باتت عبارة عن مجموعة من «المُستَخْدَمَات» الإجرائية التي يتلاعب بها السياسيون «حُكْمَاً ومُعارضة».
ثَبَتَ ذلك في مرات عديدة وفي تجارب مختلفة سواء بالنسبة للمحكمة الاتحادية العليا وتفسيرها للكتلة الأكبر أو الأكثر وأيهما المُتّسق مع الدستور، أو في تفسير القوانين، أو في اجتراح مُسمّيات وزارات غير فاعلة ولا تحمل صفة تنفيذية سوى أنها تتلاءم والقِسمة السياسية التي سبقت تشكيل الحكومة «المُتضخّمة».
خلال التِآم السياسيين في اجتماع أربيل قبل أيام والذي دعا إليه رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني خَطَبَ أحدُ السياسيين ممن أعطِي نِعمَة الفصاحة والبلاغة بحديث كُلُّ مفرداته ومراميه صحيحة (فقط) لو أن غيره تَفَوَّه به. فالرجل تحدّث عن أهمية التنازلات السياسية والوحدة الوطنية، وعن ضرورات التضحية من أجل الشعب العراقي، واستحقاق الدفاع عنه والعيش والوقوف معه في محنته اليومية، ومُداراته في عَيشِه وغيرها من مسكوكات الكَلِم التي عادة لا تحتاج إلى مزيد من التفسير، ودعاية مدفوعة الأجر سلفاً.
لا زلت أتذكّر هذا الرجل (ومعه رفيق آخر فقط) وهو باسط ذراعيه على مائدة طعام مُتْرَفَة بالمأكولات الدّسمة والفواكه الموسمية التي تَسَعُ لأكثر من عشرين شخصاً في أحد فنادق بيروت الفاخرة. بالتأكيد ليس سرّاً أن نقول إن هذا السياسي ذاته لا يزال يتنعّم بالعيش الرغيد في قصر أحد معاوني الرئيس العراقي السابق صدام حسين. لذا فلا تهكّم ولا افتئات منا عليه (وعلى غيره أيضاً ممن يسلكون المسلك ذاته) إن وصفنا خطابه بغير الصادق الذي لا يتّسق عنوانه بمُعنونه، ولا موضوعه بمصداقه. بالتأكيد هذا نموذج من ضمن نماذج عديدة داخل مسطرة السياسيين العراقيين.
الغريب في الأمر أن الذين يحكمون في العراق اليوم (حكومة وظِلاً) باتوا يتهكّمون ويستنكرون الوضع المعيشي والخدماتي القائم والمتهالك والذي هُم أصلاً ساهموا ويُساهمون في تشييده كَسِيحاً! وأصبحوا يُخاطبون الناس والعامّة بخطابهم عبر ارتجاع لفظي هابط! ليصبح الخيط الأبيض من الخيط الأسْوَد من الحقيقة لا يَبِين. هُم يريدون أن يحكموا ويعصروا آخر قطرات المنفعة من ذلك الحُكم، لكنهم يتحوّلون إلى مجموعة مُتفرّجين عند المحاسبة!
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2990 - الجمعة 12 نوفمبر 2010م الموافق 06 ذي الحجة 1431هـ