القول المأثور «إن السلطة تنبع من فوهة البندقية» لعله من أصدق الأقوال ويقترب أن يكون القانون الرئيسي من قوانين السلطة السياسية في أي نظام سياسي منذ الأزل وحتى اللحظة الراهنة، وإن كانت طرأت على المقولة بعض التعديلات لتتماشى مع طبيعة الفكر السياسي الحديث الذي يطرح مقولة «إن الشعب هو مصدر السلطات» وللدلالة على صحة المقولة الرئيسية نسوق بعض الأسانيد والتي منها:
1. إنَّ أقدم المهن في حياة البشرية الطويلة هي مهنة العسكرية. وأقدم مهام الدولة هي تحقيق الأمن، والأمن يعتمد على توافر القوة، وإرادة استخدامها بل واستخدامها عمليا عند الضرورة. فأحيانا تتوافر القوة ولكن لا تتوافر إرادة استخدامها ومن ثم يسقط النظام السياسي ولعل من أحدث الأنظمة التي يمكن الاستشهاد بها في هذا الصدد هو سقوط نظام شاه إيران محمد رضا بهلوي رغم ما كان لديه من جيش ومخابرات وأجهزة أمن متعددة، ولكن ضعف إرادة استخدام القوة جعل النظام يسقط. والمثال الثاني هو سقوط الاتحاد السوفياتي بعد إخفاق غورباتشوف واضطراره للتنازل عن السلطة في مواجهة بوريس يلتسين الذي لجأ لما يمكن أن نسميه إرادة الشعب في مواجهة الرئيس صاحب السلطة الرسمية والشرعية، ولو لجأ غورباتشوف للقوة العسكرية ما كان يمكن لبوريس يلتسين أن ينجو ولظل الاتحاد السوفياتي لم يتفكك، وفي المقابل لم يتردد يلتسين نفسه أن يوجه مدافعه العسكرية ضد البرلمان السوفياتي الذي سبق له أن احتمى به في مواجهة غريمه غورباتشوف.
2. إن الثوريين عبر العصور لجأوا للقوة سواء كانت في شكل انقلابات عسكرية، ضد الحكومة القائمة أو في شكل حرب عصابات وعمليات استنزاف طويلة الأمد تؤدي إلى إضعاف السلطة القائمة وانهيارها ولعل تجربة الصين ونجاح الشيوعية فيها خير مثال على ذلك، وهناك تجارب إفريقية ولاتينية وآسيوية عديدة، كما أن الدول العربية عانت كثيرا من تجربة الانقلابات العسكرية. وعادة ما أن يتم تسلم العسكريين للسلطة حتى وإن أعلنوا أنها بصورة مؤقتة فإنهم لا يتخلون عنها بسهولة، وإنما بشق الأنفس، إما بانقلاب آخر أو بثورة شعبية عارمة أو بنضال ومسيرة طويلة الأمد، وعادة الحالتين الأخيرتين تحدثان نادرا ويتم القضاء عليهما أو الالتفاف عليهما بسهولة، إذا توافر لدى قادة الانقلاب القوة وإرادة استخدامها، وهذه هي الحالة السائدة في عدد من الدول العربية عندما يصل قائد الانقلاب للسلطة ويجري انتخابات معروفة نتائجها وأساليب الوصول لتلك النتائج ويتحول من قائد انقلاب إلى رئيس منتخب بطريقته الخاصة حيث يعلن أن بقاءه في السلطة إنما هو امتثال لإرادة الشعب ولإصلاح ما فسد من الأوضاع في عهد الحكومة أو الحكومات السابقة عليه.
3. إنه حتى في النظم الملكية الوراثية كثيرا ما نجد أبناء الملوك يتلقون تعليما عسكريا في أحدث المعاهد والجامعات العسكرية ويتدرجون في المناصب العسكرية وبذلك يصبحون مؤهلين علميا وعمليا لقيادة الدولة عبر شرعيتين: الأولى شرعية الوراثة والثانية شرعية القوة العسكرية، وهي قوة عادة لا يتخلى عنها صاحب السلطة في أي من النظم السياسية الملكية أو الجمهورية، الديمقراطية أو الدكتاتورية، فالرئيس هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، وهو الذي بيده إعلان حالة الحرب أو إعلان حالة الطوارئ والأحكام العرفية (العسكرية) وإبرام السلام والعودة للحالة الطبيعية.
النظام السياسي الباكستاني اعتمد على ثلاث ركائز منذ قيامه: الأولى فكرة ايديولوجية دينية وهي ربطت الهوية الوطنية للنظام السياسي بالهوية الدينية. الفكر الايديولوجي سواء دينيا أو علمانيا هو من أصعب الأفكار لمواجهته لأنه يؤمن بسلامة الفكر ومصداقيته ويجعل الآخر إما كافرا أو عميلا أو خائنا. أي يقوم بعملية ابتزاز وإرهاب واغتيال معنوي للخصم، حتى وإن أقسم هذا الخصم بأغلظ الإيمان بأنه ليس كذلك. وبالطبع القوانين والمحاكم ورجال الإفتاء الشرعي أو الاجتهاد السياسي الايديولوجي جاهزون لتحقيق غرض الحاكم في سحق الخصم والقضاء عليه. وشواهد التاريخ منذ القدم وحتى الآن تشير إلى هذه الحقيقة. ففرعون في الزمن القديم قال لقومه «ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد» (غافر: 29). وعطفا على مسيرة الزمن قال عدد من الرؤساء الأميركيين مثل جورج دبليو بوش «إما معنا أو مع الإرهاب». وقال قبله وزير الخارجية الأميركي الشهير جون فوستر دالاس «إما معي أو مع عدوي (الشيوعية)» فالخيار بين نقيضين لا ثالث لهما. إما مع الله وحزبه وإما مع الشيطان والاستعمار، إما مع الحق أو مع الباطل والحق هو ما أرى والباطل ما يراه غيري.
الركيزة الثانية: الزعيم الكارزماتي وكان ذلك هو الزعيم محمد علي جناح الذي اتفق عليه جميع الباكستانيين وأيّدوه، ولكنه رغم طرح المفهوم الديني للدولة كان علمانيا وغير متدين، ولسوء حظ باكستان توفي بعد فترة قصيرة من قيام الدولة ولذلك بقى أسطورة أو شبه أسطورة. ومن جاء بعده اعتمد في الأساس على السلطة العسكرية بانقلاب أبيض أو شبه أبيض، أو حتى بانقلاب دستوري عبر صناديق الاقتراع التي عبّرت عن الشعب تحت وطأة القمع والقهر من النظام السابق للنظام الديمقراطي القصير العمر، الكثير الفساد والانحراف، والذي سرعان ما كان يسلّم زمامه للسلطة العسكرية إما مباشرة في انقلاب وإما غير مباشرة عبر الخضوع لإرادة رئاسة الأركان في قراراته السياسية الرئيسية.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 2434 - الثلثاء 05 مايو 2009م الموافق 10 جمادى الأولى 1430هـ