جولة الرئيس باراك أوباما الآسيوية كانت مقررة قبل أن يصاب الحزب الديمقراطي بخسارة قاسية في انتخابات الكونغرس النصفية التي جرت في مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري. إلا أن نتائج الانتخابات السلبية أعطت قيمة مضافة للجولة بوصفها تشكل ذلك الملاذ الآمن بحثاً عن حلول تجارية لأزمة مالية أخذت تضغط على الخزينة والسوق الداخلية.
لجوء أوباما إلى آسيا لفك الحصار الداخلي واحتمال تورط الولايات المتحدة في سياسة انعزالية تضعف دورها الدولي جاء في سياق تحولات أعطت فرصة لظهور الورقة الهندية على المسرح العالمي. فالحاجة الأميركية تقاطعت مع طموح هندي يحاول تأكيد دوره الإقليمي في دائرة جنوب غرب آسيا بعيداً عن المجال الحيوي الصيني في شرق آسيا وتلك العلاقة التقليدية التي ربطت نيودلهي مع موسكو منذ سبعينات القرن الماضي.
الورقة الهندية جاءت في توقيت مناسب فهي تنقذ الولايات المتحدة من ورطتها الاقتصادية وتعطي فرصة للهند لتلعب دور اللاعب الأول في معادلة إقليمية تتعرض للتغيير في موازين القوى بسبب تراجع حاجة واشنطن لموقع باكستان الجغرافي كدولة مجاورة لأفغانستان وكقوة محلية يمكن الاعتماد عليها لصد النفوذ الروسي وطموح موسكو لمد مجالها الحيوي إلى المحيط الهندي.
جولة أوباما الآسيوية يمكن إعادة قراءة خطواتها في إطار إستراتيجي يكشف عن بداية تحولات في سلسلة التحالفات التي بدأت تظهر على سطح مسرح جنوب غرب آسيا معلنة عن احتمال تشكيل منظومة علاقات إقليمية توازن تلك التي أخذت تتألف في جنوب شرق آسيا في إطار رعاية صينية.
الهند قد تكون البديل الاستراتيجي في الربع الأول من القرن الجاري وهي تمثل ورقة قوية في المراهنة على مستقبل سوق قارية نامية وواعدة، ما يعطي فرصة لنيودلهي أن تلعب دور الوكيل التجاري الذي يمكن الاعتماد عليه للخروج من المأزق المالي - الاقتصادي للولايات المتحدة. وحتى تكون الهند قادرة على لعب هذا الدور المفترض كان على واشنطن أن تقدم تنازلات سياسية والتضحية جزئياً ببعض الأصدقاء والحلفاء في طور لاحق يتوقع أن تتشكل خلاله مراكز قوى صاعدة في منطقة متوترة أمنياً وقد تشهد تقلبات بعد تسليم السلطة لحكومة كابول في العام 2014.
ورقة الهند ستكون استراتيجية في السنوات المقبلة وهي لا تقل أهمية عن الدور الذي لعبته ورقة اليابان في خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي، ثم ورقة الصين في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي. فالورقة اليابانية شكلت بعد استسلام طوكيو في نهاية الحرب العالمية الثانية نقطة ارتكاز للولايات المتحدة لكونها كانت حاجة إقليمية تؤسس عليها واشنطن ذاك النموذج الاقتصادي المتقدم لوقف أو مواجهة نمو النفوذ «الشيوعي» في جنوب شرق آسيا.
نجاح النموذج الياباني المدعوم أميركياً ساعد الولايات المتحدة في حماية مناطق نفوذها وحدّ من انهيار المعسكر الغربي في شرق آسيا. إلا أن النموذج الياباني لم يكن من دون ثمن إذ نجحت طوكيو في تكوين اقتصاد أخذ يتقدم بسرعة ويخترق الحواجز الأوروبية والموانع الأميركية إلى أن أزاح إيطاليا وفرنسا وبريطانيا وأخيراً ألمانيا ليحتل الموقع الثاني في ترتيب القوى العالمية.
حافظت اليابان على المركز الثاني إلى مطلع القرن الجاري إلى أن أخذت تتعرض إلى منافسة قوية من جارها الصيني الذي شهد نمواً مضطرداً بدعم من الولايات المتحدة وسوقها القومية.
بدأ دور الورقة الصينية في نهاية السبعينات بعد أن نجح الرئيس ريتشارد نيكسون في اقتحام سور الصين لأهداف استراتيجية بغية فك ارتباط بيجين عن موسكو ومنع التمدد الروسي إلى مثلث الرعب (فيتنام، لاوس، كمبوديا) الذي بدأت واشنطن بالانسحاب منه بعد فشلها العسكري في السيطرة على مساحاته الفاصلة جغرافياً بين شرق آسيا وغربها.
الورقة الصينية جاءت أيضاً في توقيتها المناسب، فهي من جانب تشكل قوة موازية أو منافسة لنمو دور اليابان الاقتصادي في تلك الدائرة من العالم وهي من جانب آخر تشكل ذلك النموذج البديل (رأسمالية الدولة الاشتراكية) لمواجهة النموذج السوفياتي (اشتراكية الدولة) وامتداداته الفرعية وملحقاته الخلفية في مثلث الرعب. فالورقة الصينية كانت حاجة أميركية في الثمانينات والتسعينات كما كانت الورقة اليابانية حاجة أميركية في الخمسينات والستينات... ولكنها أيضاً لم تظهر وتخرج إلى العلن من دون كلفة سياسية واستراتيجية كما كان حال اليابان حين دخلت سوق المنافسة ضد أصدقاء واشنطن في أوروبا الغربية.
نجاح النموذج الصيني ساعد الولايات المتحدة في تأمين مظلة إقليمية تشكل ذلك الغطاء السياسي لمواجهة النفوذ السوفياتي وتمدده إلى فيتنام ولاوس وكمبوديا، كذلك ساهم التعاون الاقتصادي في الحد من تغلغل موسكو في جنوب غرب آسيا حين بدأ الثنائي الأميركي - الصيني في تطوير العلاقة مع باكستان ودعم إسلام آباد لمواجهة التقارب بين موسكو ونيودلهي.
انهيار الاتحاد السوفياتي وانسحابه من أفغانستان وخروج جمهوريات آسيا الوسطى من مظلة الكرملين في تسعينات القرن الماضي كشف خريطة الاستراتيجية الأميركية في شرق آسيا وغربها وفرض على واشنطن إعادة البحث عن بدائل تشكل مراكز قوى يمكن المراهنة على نموها في المستقبل. فاليابان التي تراجعت دولياً إلى المركز الثالث اقتصادياً أخذت الصين مكانها وبدأت تنافس الولايات المتحدة في محيط قاري واعد في تطوره التجاري وسوقه الاستهلاكية.
هذا المتغير فرض شروطه على الولايات المتحدة ما جعل واشنطن تبحث عن مخارج من مأزق أخذت تواجهه في السوق الآسيوية («دول النمور» اليابان والصين) إلا أن هجمات سبتمبر/ أيلول 2001 أدت إلى تعديل خريطة الطريق وإعادة برمجة الأولويات في جنوب غرب آسيا وصولاً إلى العراق. وساهم تعديل الخريطة في ارتباك دول شرق آسيا وتغيير خطط وترسيم توجهات لمواجهة الفراغات الأمنية وتداعياتها في قوس الأزمات الممتد من غرب الهند صعوداً إلى آسيا الوسطى وصولاً إلى شرق المتوسط (أوراسيا).
الآن بعد مرور العقد الأول من القرن الواحد والعشرين تبدو الولايات المتحدة تمر في طور إعادة النظر في إستراتيجية الدفاع عن نفوذها ومصالحها بعد الفوضى التي نشرتها في قوس الأزمات عقب احتلال أفغانستان والعراق. وهذه الفوضى (الفراغ الأمني) وتداعيات الإرهاب وما رافقتها من إفلاس مالي بدأت تنتج حاجة أميركية تضغط باتجاه البحث عن بديل أو رديف إقليمي يلعب دور المساعد في ضبط التوازنات الإقليمية ومنع انهيار السقف الدولي على مصالح الولايات المتحدة في دائرة متقلبة ومقبلة على تحولات دراماتيكية في العقد الثاني من القرن الجاري.
الورقة الهندية هي الخيار الأميركي الجديد في غرب آسيا، فهي من جانب قوة اقتصادية صاعدة دولياً (نمو سنوي بمعدل 8 في المئة إلى العام 2015) وسوق قارية صغيرة (استهلاك المواد والسلع والخدمات) وموقع جغرافي - تجاري يمكن أن يلعب دوره السياسي في إعادة تشكيل منظومة العلاقات الإقليمية.
إعادة هيكلة خريطة الطريق قبل الخروج من أفغانستان أخذت تضغط على الإدارة الأميركية للبحث عن بدائل إقليمية قادرة على تأمين الاستقرار في منطقة مضطربة، وقد تشهد المزيد من التدهور، أعطى الضوء الأخضر لأوباما ليؤكد في خطاباته في مومبي ونيودلهي على أهمية الدور المحوري للهند في سياق ضبط التوازنات في المرحلة المقبلة. فالتقارب مع باكستان فقد وظيفته الإستراتيجية، كذلك التعاون بين بيجين وإسلام آباد لمواجهة النفوذ السوفياتي لم يعد مطروحاً، كذلك لم يعد التنسيق الروسي - الهندي يلعب ذلك الدور الخاص في معادلة «أيديولوجية» تلاشت واضمحلت.
الورقة الهندية كما يبدو حان موعدها. فأميركا لعبت الورقة اليابانية في مرحلة أولى إلى أن استنفدت وظيفتها، فانتقلت إلى لعب الورقة الصينية في مرحلة ثانية وبدأت الآن تفقد حاجتها القصوى لها بعد غياب الاتحاد السوفياتي وتراجع النفوذ الروسي وظهور فراغات أمنية تزرع القلق على خط قوس الأزمات. فالورقة الهندية تشكل طوراً في سياق الانتقال إلى المرحلة الثالثة من خريطة طريق بدأت في شرق القارة وقد تنتهي في غربها. وهذا الانتقال من ورقة إلى أخرى يمكن وصفه بالتراجع الأميركي دولياً أو بالانسحاب التدرجي أمام نمو قوى مقابلة تزحف من شرق آسيا، كذلك يمكن توصيفه بحسب الصورة التي رسمها مستشار أوباما (بن رودس) حين اعتبر الجولة الآسيوية خطوة لتأكيد «ركائز مصالح أميركا الاستراتيجية للقرن الحادي والعشرين».
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2988 - الأربعاء 10 نوفمبر 2010م الموافق 04 ذي الحجة 1431هـ