تميزت الحقبة الساسانية بتعدد الصراعات وذلك بسبب تعدد الديانات والأعراق والقوى السياسية في المنطقة. وكان هناك استغلال واضح للدين من قبل السلطة السياسية، وقد بدأ التركيز على العامل الديني منذ نهاية الحقبة البارثية وأصبح واضحاً في بداية الحقبة الساسانية في القرن الثالث الميلادي، وأصبح السلوك السياسي - الديني الذي أتبعه الساسانيون في هذا القرن نموذجاً أتبعه الروم في القرن الرابع الميلادي، وفي خلال هذه الحقبة تكونت ثقافة استمالت رجال الدين وعملية تنظيم الطوائف الدينية بشكل هرمي يكون لها قائد في قمة الهرم، وعن طريق التحكم بالقيادات يمكن عن طريقهم تميع الدين ليوافق سياسة القوى السياسية المسيطرة وهو ما ظهر بوضوح في القرن الخامس الميلادي.
لم تكن البحرين بعيدة عن ساحة هذا الخلاف السياسي - الديني فهي تقع ضمن حدود الدولة الساسانية وقد اعتنق جزء من سكانها الديانة المسيحية، فولادة «البحرين المعارضة» التي تحدثنا عنها في الفصل السابق لم تأتِ من عدم بل ولدت من رحم هذه الخلافات السياسية- الدينية. وسوف نتسلسل في سرد هذه الأحداث بدءاً بنهاية الحقبة البارثية.
كانت الحقبة البارثية حقبة مميزة في تاريخ إيران حيث تميزت بميزات نادراً ما تجتمع في حقب أخرى من تاريخ إيران فخلال الخمسة قرون التي حكم فيها البارثيون إمبراطوريتهم، التي شملت إيران والشرق الأوسط وأجزاء من الجزيرة العربية، كان هناك تعدد في الطوائف الدينية وكانت هناك سياسة مفتوحة تجاه الطقوس الدينية التي يمارس فيها تقديس أصنام أو آلهة، على حد زعمهم، ذات طابع يوناني إيراني (Mozdoor 2003). وقد حدث تناقص لتأثير الديانة الزرادشتية، التي ورثها البارثيون عن الأخمينيين الفرس، وأخذ هذا التناقص يستمر خلال الحقبة الهلنستية حيث كان العنصر الأساسي لسياسة البارثيين هو تحمل جميع الطوائف الدينية كالوثنية واليهودية والمسيحية وإعطاء حرية ممارسة الطقوس الدينية لكل مواطنين الدولة البارثية بمختلف انتماءاتهم الدينية (Mozdoor 2003). وعلى الرغم من ذلك كانت هناك نزعة إيجابية متزايدة تجاه الديانة الزرادشتية وخاصة في حقبة بعد الميلاد وكان الغرض منها إحياء جزء من جانب الثقافة الإيرانية في كل جزء من أجزاء مملكتهم، وبالرغم من محاولاتهم إلا أنهم لم يستطيعوا إنجاز ذلك، إلا أن هذه الرغبة خلقت نوع من الحالة الانتقالية من حالة التعددية والتحمل والمساواة إلى حالة من تأسيس فكر جديد يقوي وجود العناصر الثقافية الإيرانية في المنظر السياسي، وهذه الفكرة لم تتحقق على أرض الواقع إلا بظهور الدولة الساسانية (Mozdoor 2003).
استغلت الطوائف المسيحية الحرية النسبية أثناء القرون الثلاثة الأولى للميلاد، أي إبان سيطرة الدولة البارثية الفارسية للمنطقة ليتوسعوا وينتشروا ويطوروا كنيستهم، وعلى رغم عدم توافر معلومات ثابتة عن علاقة الملوك الفرثيين بالديانة المسيحية إلا أن الواضح أن الديانة المسيحية أخذت في عهد هذه السلالة تنتشر في شتى أنحاء ما بين النهرين حتى بلغت البلاد البابلية الجنوبية نفسها (أبونا 1985، ج1 ص25). وهناك العديد من التقارير عن أساقفة في عاصمة الدولة البارثية سلوقية-طيسيفون وهما مدينتان تقعا في الغرب من بغداد وقد بنيت على أنقاضها المدائن، وسنرى لا حقاً أن الكنيسة التي بنيت في سلوقية، والتي عرفت أيضاً باسم ساريق أو ماحوز، أصبحت مركز الكرسي البطريرقي الذي تتبع له الكنائس الأخرى في حدود الدولة الفارسية. إلا أن الديانة المسيحية في القرون الثلاثة الأولى للميلاد لاقت الكثير من الصعوبات التي أبطأت من تقدمها وما ذلك إلا بسبب وقوف الوثنيين وعلى رأسهم أباطرة روما من جهة، والذين سيطروا على جزء من الشرق الأوسط، والعبرانيين من الجهة الأخرى. أما البارثيون فلم يكن لهم ذلك التعصب الديني لا سيما وأن الضعف بدأ يدب في الدولة البارثية.
ويقول أدي شير في كتابه «كلدو وآثور» المجلد الثاني إن المسيحية استطاعت في بدايات انتشارها في بلاد بين النهرين أن تكون جامعة لجميع الناطقين باللغة الآرامية وأن تصهر سكان الرافدين من الكلدان (الأشوريين) في بوتقة واحدة وأمة واحدة. حتى أن المتنصرين أهملوا أسمهم وهو (الكلدانيون) أو (الكلدان الأثوريون أو الأشوريون) لنفورهم من كل ما يدل على الوثنية. لأن اسم الكلدان في تلك الأحقاب صار مرادفاً للمنجم والفلكي فاشمأزوا منه وأسمو أنفسهم مشارقة وأصبحت كنيستهم الكنيسة الشرقية أو الكنيسة التي في فارس وذلك باعتبار ارض كلدان (بين النهرين) كانت تابعة لحكم فارس (الشماس 1998).
في العام 225 ميلادية سقطت الدولة البارثية وبرزت الدولة الساسانية، وقد فوجئ الساسانيون بانتشار المسيحيين في شتى أرجاء بلادهم وبتغلغلهم في مختلف ميادين الحياة، واضطروا إلى اتخاذ موقف تجاه هذه الديانة الجديدة التي تهدد معتقداتهم الوثنية وما فيها من الخرافات الكثيرة (أبونا 1985، ج1 ص25). وفي سبيل إعادة توحيد دولته قام أردشير الأول (224 م -240 م) أول ملوك الدولة الساسانية بإعلان الديانة الزرادشتية كديانة رسمية للدولة الساسانية، وقد كان هذا القرار قراراً سياسياً بحتاً لا علاقة له بالدين (Kimball 2000، ch. 8.1). ويقول توراج داريئي في كتابه عن الدولة الساسانية إن عائلة أردشير كانت من سلالة عائلة متدينة بالديانة الزرادشتية، وكانت لأردشير خبرة في هذه الديانة وبذلك يكون جعل هذه الديانة هي ديانة الدولة الأساسية يؤهل أردشير للحصول على السيطرة السياسية على المنطقة ومن ثم السيطرة السياسية على الامبراطورية بأكملها، ويشبه داريئي ذلك بمثابة جماعة بدأوا ثورتهم كحركة دينية ثم أصبحوا كقواد لمحاربين (Daryaee 2009، p. 69). ولم تكن الزرادشتية تصلح للتصدير خارج أرض فارس وذلك لنفور الشعوب غير الفارسية من تقبل بعض مبادئها مثل ترك جثث الموتى لتأكلها النسور، إلا أن مبدأها المركزي وهو الصراع الدائم بين قوى الخير وقوى الشر جعل هذه الديانة مناسبة لتحفيز المقاتلين (Kimball 2000، ch. 8.1). وبذلك تم لأردشير الأول العام 225م أن يفرض سيطرته على فارس وتمكن أيضاً من أن يضم تحت سيطرته منطقة بين النهرين وشرق الجزيرة العربية بما في ذلك جزر البحرين وعمان. أما الأجزاء الأخرى من الهلال الخصيب وشبه الجزيرة العربية فقد بقي تحت سيطرة البيزنطيين الروم.
لم يكن موقف الساسانيين واضحاً تجاه الديانة المسيحية في بادئ الأمر فيلاحظ أن أردشير الأول ورغم أنه أعلن نفسه ساجداً «لمزدا» فهو يحترم كنيسة «كوخي» وقد ضمها إلى المدينة الجديدة التي شيدها بالقرب من طيسفون وسماها «فيه ارداشير» (أبونا 1985، ج1 ص26). إلا أن تشجيع الدولة الساسانية لنشر الديانة الزرادشتية جعل من المسيحيين الذين يقطنون الهلال الخصيب مقسمين تحت رحمة عدوين لدودين: الامبراطورية الساسانية الفارسية التي تحكم العراق وتشجع الديانة الزرادشتية والامبراطورية الرومانية التي تحكم (سورية الرومانية) وتحارب الديانة المسيحية. وقد كان ملوك الروم في هذه الحقبة أكثر اضطهاداً للمسيحيين. حيث كان الملك الروماني ديسيوس (249 م - 251 م) أول من أوجد برنامج ضد المسيحيين داخل الامبراطورية الرومانية (Kimball 2000، ch. 8.7)، ولم استلم دفة الحكم دايوكليتين (285 م - 305 م) قام بأبشع الجرائم ضد المسيحيين داخل الامبراطورية الرومانية (Kimball 2000، ch. 8.8). وبسبب السياسات القمعية ضد المسيحين الذين يزداد عددهم يوماً بعد يوم ويزداد صمودهم أزداد الانقسام داخل الإمبراطورية البيزنطية.
وقد استغل الفرس هذه النقطة لمصلحتهم وذلك بالتسامح مع المسيحيين وبذلك يزداد تمرد المسيحيين داخل الدولة البيزنطية ضد السلطة، فيلاحظ أن شابور الأول (239م - 270م / 272م) وصف أنه متسامحاً نسبياً تجاه الديانة المسيحية على الرغم من عدم إصدار أي مرسوم يقضي بشرعية هذه الديانة في مملكته، مهما قيل في هذا الشأن، إلا أنه ساهم من حيث لا يدري في انتشار المسيحية في المنطقة الفارسية وذلك بواسطة السبايا الذين أتى بهم من المنطقة الرومانية خلال غزواته الثلاث الموفقة في المنطقة الرومانية في الأعوام 244م و 256م و259م - 260م، وكان معظم هؤلاء السبايا من المسيحيين الذين أخذوا ينشرون ديانتهم حيثما حلوا وينظمون شئونهم الكنسية ويتغلغلون في شتى المجالات الاجتماعية (أبونا 1985، ج1 ص27 - 28).
قرار قسطنطين وتغير سياسة التسامح عند الساسانيين لقد بقيت سياسة التسامح الساسانية للديانة المسيحية بين أخذ وجذب ولم يتعرض المسيحيون القاطنون في الامبراطورية الفارسية للاضطهاد العنيف طالما كانت الامبراطورية الرومانية تدين بالوثنية، ولكن عندما تولى قسطنطين الكبير الحكم (312 م - 337 م) وجد الامبراطورية البيزنطية تعاني من انقسامات داخلية من جهة ومن قوى الساسانيين الفرس من جهة أخرى. فما كان من قسطنطين إلا أن سار على النهج الذي اتبعه أردشير الأول من قبل، فهمَّ بتوحيد إمبراطوريته وإكمال المشروع الذي بدأه دايوكليتين، وبعد أن تم له ذلك شرع الديانة المسيحية كديانة رسمية للامبراطورية الرومانية (Kimball 2000، ch. 8.8). وما أن صدر مرسوم ميلانو العام 313م والذي أعلن فيه الملك قسطنطين الكبير شرعية الديانة المسيحية في امبراطوريته، بل تشجيعه لها ثم انتماءه إليها، حتى تغير موقف الفرس من رعاياهم المسيحيين وأخذوا يكنون لهم كراهية ويضمرون لهم الشر والعداء (أبونا 1985، ج1 ص41).
لقد اعتنقت الامبراطورية الرومانية الديانة المسيحية إلا أنها لم تقبل بها بصورتها الشرقية وبلغتها الآرامية (السيريانية) بل حاولت أن توفق بين المسيحية وفلسفتها الهلنستية، فقد تابعت في المسيحية نظام الإمبراطورية الرومانية وتخلت عن لغتها الأصلية إلى اللغة اليونانية. وبذلك أصبحت الكنيسة الجامعة الكاثوليكية ينظمها أساقفة يونانيون. وقد ساهمت هذه الكنيسة في نشر الثقافة اليونانية من جانب وإسباغ ثوب الثقافة اليونانية على المسيحية من جانب آخر (الفيومي 1980، ص85). ثم بدأت جهود فردية تعكف على التوفيق بين العقيدة المسيحية والفلسفة اليونانية وظنوا أن تضافرها مع الفلسفة يعطيها قوة. ومن هنا ظهر تمايز في الأسلوب أدى إلى حساسية مفرطة أخذت تزداد بفضل النعرة العنصرية بين الكلدانيين (الآراميين أو السريان) والهلنستيين. وأدى ذلك لظهور كنيستين في الشرق (الهلال الخصيب) تختلفان من حيث الوسائل التعليمية: كنيسة الإسكندرية (الكنيسة الجامعة) تحت سيطرة الامبراطورية الرومانية وهي يونانية ذات شكل مسيحي. وكنيسة سريانية بلغتها السريانية (الآرامية) والمسيحية في تقاليدها وهي التي كانت منتشرة من قبل. فعاد الانقسام مجدداً بين شعوب الإمبراطورية الرومانية. و بدأت الكنيسة الرومانية في تأليب السياسة الإمبراطورية على الكنيسة السريانية. وارتأت الإمبراطورية من وجهتها السياسية أن وجود كنيسة سيريالية يعتبر تمرداً على سلطاتها السياسية من جهة وعلى الكنيسة الجامعة من جهة أخرى. فراحت تقضي بعنف على تلك الكنائس المحلية ذات الصبغة القومية أو النزعة الاستقلالية لغة وديناً. وقد اضطهد أصحاب الكنيسة السريانية من قبل الإمبراطورية الرومانية فلجأ الكثير منهم إلى ما بين النهرين (العراق) خارج نطاق الإمبراطورية الرومانية ولكن ضمن حدود الدولة الساسانية (الفيومي 1980، ص89 - 90).
ولم يضيع الفرس فرصة استغلال الشقاق في المسيحية فقامت بالترحيب بكل اللاجئين من جور الإمبراطورية الرومانية حيث ارتأت في وجود أمثال هؤلاء الهاربين والمتهمين بالهرطقة من قبل أعدائهم اللدودين يخدم مصالحهم. لهذا وفروا لهؤلاء الهاربين الحماية والأمان. ليس هذا وحسب بل قامت بإنشاء كنيسة لهم في جنديشابور بالقرب من أصفهان حيث أستقر فيها اللاجئون.
في العام 428م عين نسطوريوس بطريقاً للقسطنطينية. وفي هذه الفترة زادت الهرطقة في الإمبراطورية الرومانية والتي كانت تدور حول طبيعة المسيح ففريق ينادي بالطبيعتين للمسيح وهم أصحاب الكنيسة السريالية والتي كان يمثلها نسطوريوس وفريق آخر ينادي بالطبيعة الواحدة للمسيح وهناك نظرة ثالثة توفق بين الرأيين. وفي العام 431م تبنت الإمبراطورية الرومانية الفكرة المتوسطة بين ذوات الطبيعتين وذوات الطبيعة الواحدة وعلى إثر ذلك تمت إدانة نسطوريوس بالهرطقة ونفيه، وقد أقر الشرقيون أيضاً بذلك وحرموا نسطوريوس ووافقوا على عزله إلا أن هناك أنصاراً لنسطورس حتى وإن خمدت الفتنة تبقى أنها أفكار تسربت إلى الشرق من مدرسة وراحت تشق طريقها إلى العقول ولن يمضي عليها نصف قرن حتى تختمر وتولي اتجاهاً خاصاً لشطر كبير من الكنيسة في الشرق (أبونا 1985، ج1 ص84 - 85). وقد تم في سنوات سابقة (العام 410م) تركيز الطائفة المسيحية القاطنة في حدود الدولة الساسانية في قيادة مركزية ليسهل التحكم بها وبما أن السياسة الساسانية تقتضي تعزيز المذهب المعارض لروما فقد تم إعطاء كنيسة الشرق سبغة نسطورية وبحلول العام 486م أصبحت النسطورية المذهب الرسمي لجميع الكنائس في فارس (Kimball 2000، ch. 8.10) وبذلك اقترن اسم النساطرة بالكنيسة الشرقية.
العدد 2988 - الأربعاء 10 نوفمبر 2010م الموافق 04 ذي الحجة 1431هـ
بسام
الأخ حسين محمد حسين، أنا باحث من بغداد و لدي بحث حول كنيسة كوخي لذا أتمنى أن تساعدني ببعض المصادر التي ممكن أن تنضج بحثي.
تحياتي