في معرض «الأشجار تموت واقفة» والذي اختتم الأسبوع الماضي بجمعية البحرين للفنون التشكيلية تجتهد الفنانة الفلسطينية آلاء بسيسو في صناعة صورة المعاناة الفلسطينية عبر الممازجة بين الشعر والرسم لتصنع لوحة فريدة تتشكل عبر الإيقاع الذي يفرضه الشعر تارة أو الإيقاع الذي يفرضه اللون الأسود تارة أخرى والذي شكل كل لوحات المعرض متخذة من فحم المعركة أداتها الفنية لتقول كلمتها كفنانة عبر اللوحة والتشكيل ولتحول الركام من حولها إلى نظام آخر تعيد به توازنها المسلوب، ولتصنع من أداة الدمار «النار» وما خلفته من سواد «الفحم» أداة للبناء.
لعل أهم ما يلفت النظر في هذا المعرض هو اجتهاد الفنانة بسيسو في التقاط مجموعة من قصائد الشاعرين محمود درويش ومعين بسيسو في صناعة ملحمة للمعاناة الفلسطينية عبر أداة فنية واحدة في كل اللوحات هي أشبه بفن المنمنمات، ولعله من هنا تكون المزاوجة بين الشعر والرسم قائمة بسهولة، حيث يفترض الشعر عنصر الإيقاع وهو النبر المتكرر في اللفظ في مقابل التنقيط المتكرر الذي تستوظفه المنمنمة، هذا على مستوى البنية، أما على مستوى عناصر الصورة فيلحظ المتلقي أن كل اللوحات تتشكل من مجموعة من العناصر لا تخلو منها أي لوحة تقريبا، حيث تحضر المرأة ويحضر القيد ويحضر الدخان ويحضر الطفل والطيور والشمس كمجموعة من العناصر التي تشكل مأساة الملحمة الفلسطينية في شكل متضادات تحمل طرفي الصراع الداخلي والخارجي على مستوى الألم الذي يصنعه الآخر في صدامه مع الذات والأمل تصنعه الذات في مواجهتها للمعركة غير المتكافئة.
من هنا تتشكل عناصر اللوحة في نقاط متواصلة وأشكال متكررة وكأن الفنانة بسيسو بتركيزها على تكرار هذه الأشكال تخيط ثوبا دقيقا من كثرة الأشكال المتشابكة، أو كأنها تشتغل على إعادة حياكة الثوب الفلسطيني الممزق، وأحيانا لا يجد المتلقي أي مساحة فارغة من الأشكال سوى السماء وحتى السماء نراها أحيانا وقد تلبدت بالدخان أو ما هو أشبه بالغيوم السوداء من النار والدخان وما ذلك سوى من شدة تواتر الأحداث وتراكمها وتقادحها في ذهن الفنانة وإلحاحها على التراكم في اللوحة.
المرأة والأرض
لا تخلو أي لوحة من الوجوه وتكاد تكون كل لوحة بها وجه أو وجهان هما لامرأة أو لطفل أو طفلة فلسطينية فثمة امرأة تعكس التحدي رغم القيد، وأخرى تتجذر أرجلها في الأرض عروقا، وأخرى تقف شامخة كالباب الفلسطيني مرفوعة الرأس، وأخرى تحمل بين يديها الورد، وأخرى تغطي وجهها ماسحة الدموع، وأخرى تحتضن طفلها أو تنتشله من بين الركام، وأخرى قد أغلقت فمها في شكل حجارة أسمنتية منتظمة للتعبير عن الصمت الممعن، وما كل هذه النساء في تعددها إلا صورة واحدة للوطن، بما يجعل المرأة ها هنا معادلا موضوعيا للأرض الفلسطينية.
وثمة امرأة مقيدة ولكنها شامخة بأنفها ونظرتها العالية في تحد ممعن ووجوه لنساء مقيدات أشبه بقلب مقلوب، هكذا تتحول الأشياء في اللوحة حيث يبدو قرص الشمس أشبه بسياج الحديد الشوكي في حين أن الشمس من المفترض أن تكون رمزا للحرية والتطلع للنور والأمل ولكن ربما هذه لحظة من لحظات اليأس بما يجلي فكرة الإمعان في الحصار، وثمة امرأة مقيدة وأرجلها عروق للوطن بينما أيديها فروع شجرة تمتد للسماء استعطافا ودعاءً، وامرأة أخرى شعرها كوفية فلسطينية، وأخرى ذوائب شعرها تتحول إلى أغصان شجر تمتد للسماء، بما يؤكد فكرة المعادل الموضوعي والتبادلية في المعنى بين المرأة والوطن.
هكذا لا تحضر البيوت إلا مهدمة والنيران تلتهمها، وكذلك الأشجار وأغصانها، وغصن الزيتون بالتحديد يحترق أيضا وحتى الأمطار والدموع التي تحضر في بعض اللوحات بغزارة لا تطفئ نيرانها فثمة سيول وأنهار وثمة نيران في جهة أخرى وما حضور الماء ها هنا إلا محاولة لإطفاء النار على مستوى الداخل أو على مستوى الخارج.
هكذا اختارت بسيسو أن تشكل لوحاتها من خلال مجموعة من قصائد درويش ومعين بسيسو وتنثر الأشعار في ثنايا اللوحة وكأنها جزء من التشكيل من غير أن تحس بالفارق بين المستويين في المعنى أو الشكل حيث تتشكل الكلمات وحروفها بنفس مستوى الخطوط التي تتشكل في اللوحة كمجموعة من الأشواك أو الخيوط المتشابكة والمتداخلة في بعضها البعض لتمثل المشهد الفلسطيني.
التكثيف ولعبة العنونة
ولعله من الذكاء الفني ما فعلته بسيسو حين اختارت عناوين لوحاتها من أبرز الاستعارات الشعرية التي احتواها كل نص من النصوص التي اختارتها في مجموعة لوحاتها في المعرض، حيث يشتغل العنوان على تكثيف المعنى على مستوى اللفظ، بينما تشتغل اللوحة على تكثيف الصورة على المستوى البصري، المدينة المحاصرة، تحدي، وعادت في كفن، البيوت، صليل الجبال، تخيط خاصرتها بالألغام، لمعة، الأرض المعمدة حطام القيود، الجرح، إلى عيني غزة في منعطف ليل الاحتلال.
العدد 2988 - الأربعاء 10 نوفمبر 2010م الموافق 04 ذي الحجة 1431هـ