لقد أصاب رواد النهضة العرب وأحسنوا، عندما فسروا الحرية في الغرب، وقابلوها بالعربية - استئناسا بلفظة الليبرتارية الشائعة في فرنسا، والدائرة على كل لسان - فرأوها تعني العدل والإنصاف، وأشادوا بأهميتها وضرورتها، ومنهم من انتبه إلى جذورها النظرية في مبادئ الإسلام، كما أوضحوا من أن السير في طريق التنمية والتطور، واكتساب المعرفة، يقتضي بالضرورة وجود أحزاب وتنظيمات مؤسسة على دعامة الحرية، فبالحرية حسب رأي هؤلاء يتحقق العدل والسعادة، وتؤثر إيجابيا في حميّة الإنسان للذود عن الأوطان، لهذا جاء فيهم من يقول: من إن الأمة التي يفتقد شعبها الحرية، الأمة التي لا تأبه لشعبها، ولا يؤخذ برأيه، مثل هذه الأمة لا بد أن يعتريها الخلل والاعتلال، وهي بالتالي آيلة إلى السقوط حتما؛ هذا ما نادى به جمال الدين الأفغاني 1838-1897- :(عليكم أن تخضعوا لسطوة العدل، فالعدل أساس الكون، وبه قوامه، ولا نجاح لقوم يزدرون العدل بينهم). والعدل كما نوهنا - قبل قليل - هو الحرية والديمقراطية بلغة السياسة اليوم، ومنهم من كان يرى في التمدن والمعرفة شرطين لقيام الحكومة الديمقراطية، وكان يرى أن الحرية عدل، والعدل واجب، والحرية هي التي تنتج العدل...
نظر هؤلاء الرواد، وفي مقدمتهم رفاعة الطهطاوي 1801 - 1873 إلى الواقع العربي المعيش، ثم قارنوها بالواقع الغربي المتقدم، فرأوا البون شاسعا، لذلك تحفزّوا في نضالهم لأمرين اثنين هما، التغيير والتطوير، أي تغيير الواقع العربي المعيش، والتقدم نحو نموذج أفضل، في ظل واقع جديد يتمتع ناسه بالحرية والعدالة، فكان لا بد إذن من التصدي للواقع المزري كضرورة للتغيير... فالتغيير في الواقع السياسي هو السبيل لولوج واقع حضاري جديد...
مضى هؤلاء الرواد شوطا إلى أمام...فراحوا ينشدون حكومة فيها الحاكم يتقلد المنصب لإدارة الدولة ورعاية المجتمع بموجب قوانين وبسبل شرعية، فرأوا أن الحاكم الذي يأتي بإرادة أناس أحرار، خير من حاكم يمتثل لإرادته الناس كعبيد منقادين، فعندما ينبثق الحاكم من بين صفوف الأحرار، فهؤلاء الأحرار سينعمون بمنافع الدولة، وسيكونون بالتالي عونا للحاكم وسياجا للوطن، كما أن الحاكم بدوره سيدرأ عن شعبه المفاسد، وسيعمل على جلب المنافع له... فالحاكم بثقافة هؤلاء، لا يجوز أن يكون مالكا للشعب، بل يكون راعيا عليهم، ضامنا لمعيشتهم الكريمة بعيدا عن العوز وذل الحاجة...
مسألة أخرى ركز عليها رجال النهضة وهي حرية التملك، فهم كانوا فيما يقصدونه من الحرية السياسية هو التأمين على أملاك الفرد، وحق حرية التصرف فيما يملكه، ومنها أيضا ( حرية الفلاحة والتجارة والصناعة) كما دعوا إلى حرية الملاحة والسياحة...
كما كان لا بد أيضا من التطوير في التصورات الدينية، ومن حق الدارسين الاجتهاد في النصوص الدينية، وظهر من تجرأ بينهم عندما طالبوا بالحرية الدينية. وقصدوا هنا بالحرية، حرية الاجتهاد، كما دعوا إلى نبذ التعصب الديني للإضرار بسواهم، واعتبروا ذلك ضربا من العصبية، وإذا استحضرنا ذهنيا ذلك الواقع المؤطّر بإسار الدين أدركنا كم هي جريئة زمنيا دعوات الاجتهاد في نصوص الدين، حيث كان العرف السائد من أن العامة يمتثلون لرأي السلف الذي يحبذ الاتباع، دون المجازفة في البحث، فالجريء بينهم طالب بالعودة إلى مبادئ الدين الحنيف في صفائه... كما فعل علي عبد الرزاق في مؤلفه (الإسلام وأصول الحكم)... لهذا كان كثيرا ما يترنم المحافظون بفحوى هذا البيت:
وكل خير في اتباع من سلف
وكل شر في ابتداع من خلف
كما أكدوا أيضا على أحد مبادئ الحرية وهو المساواة، فلا حرية عندهم دون مساواة، فالمساواة هي الوجه الآخر للحرية، كما أن المساواة في الحقوق، ملزمة في الوقت ذاته للمساواة في الواجبات، كما ركز هؤلاء على حرية الطباعة، أي حرية الرأي والنشر...
كانت الحساسية لدى هؤلاء الرواد قوية تجاه الاستبداد، تجاه ظلم الحاكمين، وكانوا يرون أن الظلم هو ديدن الحكم المطلق، لهذا نددوا بالاستبداد، ورأوا في دولة الاستبداد، كيف أن الكل مستبد، الكبير وأيضا الصغير، أي كل من يعمل في سلك الدولة، بحسب موقعه في الدولة، ودرجة مرتبته، ويرى خير الدين التونسي 1812- 1889 في حال غياب الحرية في أية دولة، تفقد تلك الدولة الاستقرار، ويغيب عنها الغنى، ويستبد بأهلها الفقر، وتؤثر بالتالي على معنويات البشر، وكانوا كثيرا ما يعنون بالحرية، رفض الاستبداد، فالحرية تعطي الشعب الحق والقدرة معا لخلع الحاكم المستبد، لأن الحكم هو بالأساس للشعب فلماذا الاستبداد من فرد إذن...؟
وعندما كان رفاعة الطهطاوي يستعرض الاستبداد لدى الغرب وفي فرنسا بالتحديد حيث نهل علمه، كان يذكر الناس، بأنه كيف تمت الإطاحة بالملك (لويس العاشر) عندما استبد في حكمه، وهنا إشارة خفية ربما إلى محمد علي باشا والي مصر، الحاكم الأوحد دون منازع، وبالتالي تحريض الناس ضد الاستبداد... ومن نافلة القول هنا التذكير: هل كان لمثل هذه الصيحات أثر في نفوس العامة؟. وما رد فعل الحاكم إزاء مفهوم الحريات؟.
كان غالبية الرواد منفتحين للثقافة الغربية، حتى أن الشاب المتميز أديب إسحق 1856 - 1885 طالب بتدريس تاريخ فرنسا في المدارس، كونها موئل الحريات، وهي بلد ثورة 1789 بشعاراتها (الحرية الإخاء المساواة)... وبغية حفز الهمم كان يلجأ إلى المقارنة بين مصر وفرنسا، حيث هناك حرية العمل والكتابة والنشر والتنقل، وحرية الملكية، حرية الاعتقاد حرية التعبير.
كما كان يطالب بإصلاح القضاء، وطالب بالاستفادة من التكنولوجيا الغربية، ولكثرة ما ضيق أديب إسحق بالاستبداد دفعه هذا بالتهجم على كل مستبد عبر التاريخ، فهاجم الإسكندر المقدوني، وقيصر روما، وجنكيزخان المغولي.
هذا الجهد من الدعوة إلى الحرية، كان قبل أكثر من مئة وخمسين سنة، إذا أخذنا رفاعة الطهطاوي كبداية لهذه الدعوة، مع أخذ السياق التاريخي في الحسبان، أدركنا كم نحن ما زلنا متخلفين عن الركب الحضاري، وكم نحن متقاعسين في مناضلتنا في سبيل قيمة القيم، أعني بها الحرية...!
*كاتب سوري، والمقال ينشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org»
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 2434 - الثلثاء 05 مايو 2009م الموافق 10 جمادى الأولى 1430هـ