ثمة كلام متزايد يدور في أروقة السياسة والسياسيين عما بات يعرف بـ «خطر» الإسلاميين والأفكار الدينية والمتدينين على الديمقراطية والعمل الديمقراطي والممارسة السياسية أو ما بات يعرف بـ «العملية السياسية» في البلدان الرازحة تحت الاحتلال مثل العراق وفلسطين. وكما يبدو في الظاهر فإن القلق بدأ يجتاح دوائر واسعة من النخب العلمانية سواء الحاكمة منها أو غير الحاكمة من هذا «الخطر» المزعوم. وقد وصل ببعض دوائر صنع القرار العالمي كالكونغرس الأميركي مثلاً إلى التهديد بقطع المساعدات عن السلطة الفلسطينية مثلاً وعزلها عن المجتمع الدولي إذا ما سمحت لمنظمة إسلامية مثل حماس بالمشاركة في الانتخابات التشريعية الفلسطينية قبل نزع سلاحها وتجريدها من هويتها المقاومة والممانعة، هذا فيما اتسعت دائرة المتخوفين و«القلقين» على مستقبل الديمقراطية والعمل الديمقراطي لتشمل أوساطاً وطنية كثيرة في مختلف البلدان العربية مثلاً، ولاسيما في مصر، تجاه ظاهرة صعود الإسلاميين وتحديداً «الإخوان المسلمين» في الانتخابات التشريعية المصرية الأخيرة. لا، بل إن «القلق» ذهب بالوزير التونسي للشئون الدينية مثلاً، إلى اعتبار «الحجاب ظاهرة نشاز ومستوردة وليست من الدين في شيء، وأن التنوير كفيل باستئصالها من مجتمعاتنا...» كما ورد في تصريحات له أخيراً نشرت على صفحات الإنترنت...، والقصة تعود جذورها الفكرية في الواقع إلى ذلك الزعم الشهير «بأن الدين أمر روحي وفردي يرتبط بعلاقة الفرد بربه ولا يحق للمتدينين أو الإسلاميين من السياسيين خصوصاً أن يزجوا به في بازار السياسة وعالم الحكم والدولة والدنيا و...»، لكن التجربة المريرة التي مر بها «عالم التدين» عموماً ولا أريد أن أقول المتدينين فقط أو الإسلاميين الحركيين منهم أو غير الحركيين أتباع الإسلام السياسي، وأتباع الإسلام التقليدي نسبت لأي مراقب أو محلل اجتماعي سياسي للوقائع التاريخية عبر أجيال متوالية، ولاسيما العقود الخمسة الأخيرة، بأن ثمة استباحة للشأن الديني وكل ما هو متعلق بأمور المتدينين من جانب الكثير من الساسة والسياسيين من دون رادع من أحد، بالإضافة إلى تقديم قراءة خاصة عن الدين غالباً ما تتلاءم مع حاجة الساسة والسلطات الحاكمة هنا أو هناك والاستعانة بـ «رجال دين» من الدرجة الأولى إلى الترويج لمثل هذه القراءة واعتبارها «المذهب الرسمي» لهذه الدولة أو تلك والطلب من الناس الاقتداء بهذه المدرسة دون غيرها، فيما يطلب بإلحاج من المواطنين والمتدينين ومن هم من المهتمين بالشأن العام منهم على الخصوص عدم الزج بالدين في عالم الممارسة السياسية فضلاً عن «تحريم» تشكيل الأحزاب الدينية و...، ثم أخيراً وصلت حال الاستقطاب لبعض الحالات الشديدة التوتر إلى طلب سياسيين ومسئولين كبار هنا وهناك من العلماء ورجال الدين أن يبادروا إلى «تكفير» من سموهم بـ «التفكيرين»، ونحن إذ نسجل رأينا القاطع والصريح أولاً بخصوص الخطر الذي يمثله البعض من أبناء جلدتنا من دعاة تكفير الآخر والغائه واستئصاله، إلا أننا نعتقد صراحة بأن الحل لا يكمن مطلقاً بالوجه الآخر للعملة أي تكفير التكفيرين، لانه سلاح أعمى لا ينتج سوى دورة عنف عمياء ليس فيها صلاح لأحد ولا إصلاح شئون العباد أو البلاد مطلقاً. ولكن، عودة إلى موضوعنا الأصلي الا وهو العلاقة بين الدين والسياسة والسياسيين، نقول إنه إذا كان صحيحاً أن جزءاً من «الدين» هو ذلك القسم المتعلق بعلاقة الفرد بربه، فإن جوانب كثيرة أخرى من الدين، وخصوصاً لمن يعتقدون بأنه منظومة للحياة لا يمكن حصره في ذلك الجانب الفردي والروحاني الخاص، فضلاً عن قطع أية رابطة بينه وبين الحياة العامة للناس المتدينين على الأقل، فضلاً عن الناس أجمعين. لكن المشكلة الأكبر تظل برأينا هي في سياسة الكيل بمكيالين من جانب أهل السياسة، ولاسيما العلمانيين منهم، فهم إذ يطالبون المتدينين بإلحاح بعدم إدخال «دينهم» في السياسة، غير أنهم يحشرون أنوفهم «السياسية» بكل ما هو شأن ديني لدى الناس إلى درجة التحريض المباشر والصريح ضد شأن عبادي من شئون المتدينين يتعلق بذلك القسم الخاص بين الفرد وربه كما يفترض، كما فعل وزيرنا التونسي أو كما فعلت عاصمة «النور» والديمقراطية والحرية باريس أخيراً. ويبقى السؤال الكبير مفتوحاً: إذا كان المطلوب فصل الدين عن السياسة كما يعتقدون ويلحون ويطالبون، فهل هو مطلوب من طرف واحد على حساب الآخر؟، أم ينبغي أن يكون مطلوباً من الطرفين إن كان هناك طرفان أصلاً؟، أم ان ما هو حرام على «المتدينين» يصبح «حلالاً» على السياسيين لحاجة في نفس يعقوب إلى «الدين»، ولكن على شاكلة هذا السلطة أو تلك؟، ثم، لماذا يصبح رأي المؤمنين والمتدينين بهذا الشأن السياسي أو ذاك «تحريضاً»، فيما يكون رأي السياسيين والمسئولين في هذه السلطة أو تلك في هذا الشأن الديني أو ذاك مهما كان مستقراً لقطاع الغالبية من الناس ممن اعتادوا على هذه الممارسة الدينية أو تلك ليس فقط «حلالاً» عليهم، بل واجباً حكومياً إن لم يفعلوا به سيعاقبون عليه وان قاموا به يثابون، أين العدل من كل هذا وذاك؟، ذلك ما لا يجيد سماعه تجار السياسة والدين على حد سواء
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 1212 - الجمعة 30 ديسمبر 2005م الموافق 29 ذي القعدة 1426هـ