إعلان السفير الأميركي في العراق عن قرب وصول خبراء دوليين للتدقيق مع المفوضية المستقلة في نتائج الانتخابات يشير إلى احتمال وجود نية تريد إعادة النظر أو إعادة الاقتراع في بعض الدوائر. هذا الإعلان هو بداية اعتراف بوجود تلاعب في أوراق صناديق الاقتراع، الأمر الذي قد يؤدي إلى زعزعة الثقة بمجمل الدوائر. فما يصح في أمكنة معينة يمكن أن يصح في أمكنة أخرى. وبعيداً عن صحة هذه المعلومات لابد من قراءة مختلفة للمسألة. فالموضوع لا يتعلق بالتلاعب وإنما بالذهنية السياسية ومدى استعدادها الفطري لتقبل ما يفرزه الصندوق من نتائج وبالتالي قبول الأطراف المعنية بوجود سلطة سياسية لصناديق الاقتراع. التركيبة العشائرية والقبلية والمناطقية مضافاً إليها الاستقطابات الطائفية والمذهبية والاقوامية ليست جاهزة كما يبدو اجتماعاً لقبول سلطة سياسية تقررها صناديق. فالذهنية العامة لاتزال تخضع في العراق حتى الآن إلى نوع من السلطات المتوارثة التي تتحكم فيها عصبيات تعتمد على شوكات ضيقة لاتزال غير قادرة على تفهم اللعبة الديمقراطية وما تفرزه الصناديق من «أكثريات» و«أقليات» سياسية. السياسة في العراق مثلها مثل الكثير من البلدان العربية لم تتطور بعد إلى مستوى الوطن أو الدولة بصفتها الرمز المشترك أو الهوية الجامعة لكل أطياف المجتمع. والسياسة في العراق تتشابه كثيراً مع بلدان تعاني من شبكة علاقات أهلية تقوم قاعدتها الاجتماعية على سلسلة لا تنتهي من الانقسامات الموروثة والمتوارثة. زاد الطين بلة في بلاد الرافدين عدم وجود تجارب حية سابقة تعطي مؤشراً لاحتمال تطوير ذهنية سياسية تقبل بسلطة صناديق الاقتراع. فهذه البلاد عانت من انقلابات عسكرية ودكتاتوريات حزبية وفردية وأسرية همشت طويلاً القوى الفاعلة على الأرض وطردتها من الدولة وعزلتها عن المشاركة في بناء القرار الوطني المشترك. كذلك تعود شعب العراق طوال فترة أربعة عقود على سياسة تقررها سلطة بالنيابة عنه ومن دون أخذ مشورته وغصباً عنه. كذلك تربى جيل على امتداد 40 سنة على أن صناديق الاقتراع مسألة سخيفة وتافهة ولا قيمة اعتبارية أو سياسية أو دستورية لها... وهي مجرد «فولكلور» يلجأ إليه الحاكم حين يشاء لتأكيد وجهة نظره. فالصناديق برأي هذا الجيل هي شكل من أشكال تزوير الإرادة ولتثبيت سياسة مقررة سلفاً اتخذها الحاكم مسبقاً. الشعب العراقي في مختلف مكوناته ومناطقه لا يثق أصلاً بالصناديق فهو تعود طوال أربعة عقود على سرقة الحاكم للسلطة والانقلاب عليها والانقضاض على كل مصادرها. ولذلك من الصعب أن يتقبل فجأة بسلطة نابعة من صندوق ويتخلى عن تلك السلطات المتوارثة المتأتية من عصبيات اجتماعية تتخذ من روح العصبية (الشوكة كما وصفها ابن خلدون) تلك الطاقة التي تحافظ على تماسك العشيرة أو الطائفة أو المنطقة ذات اللون المذهبي أو الاقوامي الموحد. هناك مشكلة فعلية لقياس التمثيل السياسي في العراق. وهذه المشكلة زادها الاحتلال تعقيداً وأضاف عليها مجموعة حساسيات لعبت واشنطن على اثارتها حين قوضت الدولة ودفعت شبكة العلاقات الأهلية إلى مزيد من الاستقطاب والتوتر. العراق الآن يمر في مرحلة انتقالية تقودها «فوضى غير بناءة». وهذا يعني أن احتمال نكوص العلاقات الأهلية مسألة واردة إذا استمرت تلك المناكفات التي ترفض التوافق السياسي على برنامج وطني يوحد الأهداف المطلوب تحقيقها على الامدين القريب والبعيد. التوافق السياسي على برنامج مشترك ربما يساعد مختلف الأطراف والأطياف على تخطي أزمة الثقة في الصناديق ويؤسس لعلاقات اجتماع تأخذ في الاعتبار ذاك التفاوت بين عصبيات تأبى الاعتراف بضعف شوكاتها وبين حاجة الناس إلى توليد دولة قابضة تمنع الانهيار الشامل وتحبط خطة اشعال الفتنة الأهلية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1212 - الجمعة 30 ديسمبر 2005م الموافق 29 ذي القعدة 1426هـ