العدد 1211 - الخميس 29 ديسمبر 2005م الموافق 28 ذي القعدة 1426هـ

ثقافة مستعارة... وأخرى عمرانية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

المعرفة الأوروبية المعاصرة تأسست تاريخياً على قاعدة العمران (الاجتماع البشري) الحديث. فالعمران الحديث، وليست العمارات الإسمنتية، أنتجت حداثة في التفكير المعرفي. ومن العمران بدأت شجرة التطور تتقدم وتتسع معتمدة على تربة مزدهرة وغنية بالمواد البشرية والطاقات الخلاقة ما أسهم في تحسين شروط المعرفة وتفرع نطاق علومها أفقياً وعمودياً. المعرفة لم تنتج العمران وإنما العكس حصل. وتطور العمران الحديث شكل تلك القاعدة التاريخية / الاجتماعية لنمو حداثة في مختلف مدارس الفنون والموسيقى والفلسفة والقوانين ونظريات الاقتصاد وآليات التنظيم وأساليب السيطرة على السوق. وجرى كل هذا التقدم المدني في سياق التحولات العمرانية التي أطلقت المنافسة بين الطاقات البشرية فأخذت تتدافع لوضع تصورات عن المستقبل. والنظر إلى المستقبل يعني وفق تاريخ النماذج الأوروبية عدم القطع مع الحاضر وما أنتجه الماضي الإنساني (الإسلامي في طليعته) من ابتكارات ومناهج ودساتير (شريعة) ومؤسسات (جامعات وجوامع) وغيرها من تراكمات ثقافية شكلت تلك المنظومة الحضارية العربية / الإسلامية. فالمستقبل الأوروبي تأسس من العمران وليس في المنتديات. الغالب الأوروبي آنذاك استفاد من المسلم المغلوب على أمره. وبنى تقدمه المدني الحديث على مجموعة قواعد إسلامية في بداية انطلاقته المعاصرة. وبعدها أخذ الغالب ينفك عن تقاليد وموروثات المغلوب ليعيد تأسيس منظومته المستقلة بعد قرون متواصلة من التطور الخاص. هذا التطور لم يحصل دفعة واحدة. كذلك لم يتحقق في سنوات وعقود. فهو احتاج إلى مسافة زمنية ومساحة جغرافية ليأخذ مداه الحيوي ليتصل ويتواصل وينفك إلى مدارس ومناهج مختلفة. بدأ تطور المعرفة الأوروبية المعاصرة من الكليات النظرية التي اعتمدت على الموروث ونزعة تجريبية ازدهرت في مختبرات العلوم والاحتكاك مع الآخر، ثم انتقلت تدريجياً إلى العلوم الإنسانية وتحديداً الفلسفة والتاريخ والاجتماع (داروين مثلاً). وحين أشبعت الكليات بالكثير من النظريات الحديثة أخذت المعرفة تنتقل إلى التفاصيل والجزئيات فتفرعت إلى مناهج مختلفة في قراءة التاريخ والعمران. وهذه الحقبة الانتقالية من الكليات إلى الجزئيات استمرت تعيد إنتاج تصوراتها وتتراكم في مدارس متفاوتة النضج والقيمة إلى حاضرنا. إلا أن الجامع المشترك بين مختلف تلك الفروع والمدارس استمر على ما هو عليه من ناحية المبدأ... أي عدم القطع مع السابق والبناء النظري على قاعدة العمران البشري. الفكر الأوروبي الحديث إذاً لم يسقط من فوق إلى تحت وإنما صعد من تحت إلى فوق. والصعود لم ينقطع عن تطور العمران (الاجتماع البشري) وحاجاته ومتطلباته. فالفكر الأوروبي ليس للترفيه والتسلية في المنتديات و«مقاهي الشيشة» وإنما كان أصل نهوضه هو تلبية متطلبات اجتماعية فرضها التطور العمراني. وهذه النقطة تشكل علامة للتمييز بين حداثة متقدمة و«حداثة متخلفة» لا وظيفة لها سوى الارتحال من نظرية (مستعارة) إلى أخرى. والفارق بين الحداثتين يعود في جوهره الاجتماعي/ التاريخي إلى اختلاف الوظيفة والدور... أي اختلاف العمران بين الاستقرار والارتحال أو بين المجتمع المعاصر والبداوة المعاصرة. وهذا الاختلاف العمراني بين النمطين يعطي صورة عن ذاك الافتراق بين ثقافتين. المعرفة الأوروبية الحديثة تطورت وتشعبت لأنها جاءت نتاج حاجة عمرانية أعطتها شرعية تاريخية ورقعة اجتماعية للتنافس. ولأن هذه المعرفة نهضت من تحت (علاقات اجتماع) إلى فوق (دولة) نجحت في اختراع وظيفة سياسية/ ثقافية لنفسها ولعبت دوراً في دفع المفاهيم الإنسانية إلى الأمام، وهي مفاهيم تطرح سلسلة فرضيات تتصل بالإنسان والحرية والحقوق وعلاقة الفرد بالمجتمع وعلاقة المجتمع بالدولة (نظرية العقد الاجتماعي لروسو مثلاً) وغيرها من قيم تلطف نزوع البشر نحو التسلط والاستئثار، وتدعو إلى التسامح والانفتاح وتداول الثروة والسلطة. فهذه الأفكار نشأت في سياق تاريخي متدرج وصعدت سلم الحضارة الإنسانية خطوة خطوة وضمن صيغ متوازنة بين مجتمع الرفاهية والمبادئ العامة التي تعكس في مضمونها الاجتماعي/ الثقافي رفاهية فكرية. هذا التدرج في تطور المعرفة الأوروبية المعاصرة بدأ في حلقة ضيقة ثم اتسعت حين نقل ميكافيلي النظريات العامة من نطاقها الفكري إلى السياسة الميدانية (التجريبية) في كتابه «الأمير» وصولاً إلى كتاب جان جاك روسو عن «العقد الاجتماعي» الذي صدر في نهايات القرن الثامن عشر الميلادي. كتاب «الأمير» في عصره أجاب عن حاجات واقع متغيّر في مجتمع بدأ يتأسس حديثاً في ضوء التقدم الاجتماعي الذي أحدثته الاكتشافات الجغرافية. فالأمير هي صفة (لقب) كانت تُعطى لعلاقات اجتماع تقليدية. ولكن ميكافيلي أعاد تدوير المصطلح واستخدمه للتعبير عن علاقات اجتماع بدأت تنمو حديثاً في مجتمع مدني كان بحاجة إلى دولة مدنية. «الأمير» هو اسم قديم (ماض ) لعالم جديد (معاصر) بدأ يطرق باب الزمن ليعلن ولادة دولة معاصرة. وهذه الدولة المعاصرة التي طالبها روسو لاحقاً بعقد اجتماعي هي مدنية في معنى تقدمها العمراني/ البشري. فاسم الكتاب (الأمير) هو أفضل تسمية للتعبير عن مرحلة الانتقال تلك وهي فترة اكتشفت فيها النخبة الأوروبية أهمية الدولة المعاصرة في مطلع القرن السادس عشر الميلادي ودورها المفصلي في التحكم بأدوات التطور وتوسيع نطاق وظائفها الاجتماعية والتربوية والصحية وغيرها من مهمات جديدة فرض شروطها «المجتمع المدني». من «الأمير» بدأ الوعي السياسي الحديث يتطور ويتفرع لتلبية حاجات نمو «المجتمع المدني» ودولته. فالدولة في أوروبا كانت فعلاً كما يقول ابن خلدون في مقدمته «صورة العمران». وحين يتأسس العمران (الاجتماع البشري) على علاقات مدنية تكون الدولة على صورتها (دولة مدنية). وحين تكون قاعدة العمران بدوية أو طائفية مثلاً فإن الدولة في علاقاتها السياسية لن تكون بعيدة عن مادة الاجتماع تلك. من هذا الاكتشاف (وعي وظيفة الدولة المدنية المعاصرة) أخذ الفكر السياسي يتطور من ميكافيلي إلى روسو باتجاهات اجتماعية وعقلانية مختلفة ليرفد الدولة الجديدة بالمزيد من المعرفة الجديدة التي كانت لها وظيفة أساسية وهي تلبية متطلبات التقدم وضغوط الاجتماع البشري (العمران) على العلاقات الإنسانية. الفكر السياسي (وعي موقع الدولة في التاريخ) كان هو مدخل التطور المعرفي المعاصر في أوروبا الحديثة. ومنه انطلقت النظريات لتساهم في تدرج تاريخي في تأسيس وإعادة تأسيس مجموعة قيم تطورت خطوة خطوة إلى أن امتدت فروع شجرة المعرفة وألقت بظلالها على مختلف شعوب العالم المقهورة والمظلومة التي كانت لاتزال تعيش علاقات ما قبل الدولة المعاصرة في مختلف القطاعات الاجتماعية والفكرية والسياسية. من هذه العلاقة القسرية (الزواج غير الشرعي) ولدت الكثير من النخب في مجتمعات العالم الثالث الراكدة. ومن بينها كانت تلك النخبة العربية «المعاصرة» التي قادت الأمة من هزيمة إلى أخرى ومن كارثة سيئة إلى كارثة أسوأ. أزمة الفكر العربي المعاصر ناتجة أصلاً عن «الزواج» اللاتاريخي بين حداثة تأسست على تطور العمران وحداثة سقطت على تخلف اجتماعي ­ سياسي أنتج توهمات أيديولوجية لا صلة لها بالعمران والإنسان والتاريخ. وليس غريباً أن تشبه النخبة العربية الحديثة نمطها الاجتماعي. فالعمران هو أساس المعرفة وحين يكون الاجتماع البشري أقرب إلى البداوة المعاصرة تصبح ثقافة النخبة أقرب إلى نمط الثقافة الارتحالية. النخبة العربية المعاصرة لاتزال عمرانياً تعيش مرحلة ما قبل الدولة وحتى الآن لم تكتشف (كما فعل ميكافيلي وقبله ابن خلدون) وظيفة الدولة ودورها في صناعة التحول وقيادته. وهذا النوع من الثقافة (المستعارة) لا يمكن أن يتطور لأن شروط العمران هي عائق اجتماعي (بشري) تمنع مثل هذا الاحتمال. ومادامت الشروط باقية على ما هي عليه فإن النخبة العربية ستبقى من دون وظيفة ودور. ومن لا وظيفة له ولا دور في حياة التقدم فإنه سيضطر إلى اعتماد سلوك البداوة (المعاصرة) والاستمرار في نمط الارتحال بين ثقافة (مستعارة) وأخرى

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1211 - الخميس 29 ديسمبر 2005م الموافق 28 ذي القعدة 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً