حذر السيّد محمدحسين فضل الله، من أن الإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي يمارسان عملية إرهاب سياسي بامتياز ضد الفلسطينيين من خلال تدخلهما في خياراته الانتخابية، متسائلاً: إذا كانت أميركا حاورت الفيتناميين وهي تحاور بعض فصائل المقاومة العراقية، فلماذا ترفض محاورة «حماس» وفصائل الانتفاضة وترضخ لما تريده «إسرائيل»؟ وأشار إلى عدم احترام الدوائر الغربية لما يسمونه حرية التعبير التي يتغنون بها في مجال اعتراضاتهم غير المسبوقة على علامات الاستفهام التي تحدث عنها الرئيس الإيراني في مسألة المحرقة اليهودية. جاء ذلك في سياق رده على سؤال عن الإيجابية والسلبية في المشاركة السياسية من النظرة الاسلامية، في ندوته الأسبوعية، وفيما يأتي الجواب: أراد الإسلام للمسلم أن ينفتح على محيطه وعلى الآخر وعلى الحياة كلها، وألا يتعامل مع الأمور بطريقة تشاؤمية، بل أن يتحرك بالتفاؤل وألا يشعر بالإحباط مهما واجه من صعاب وتحديات، ليتطلع دائماً إلى إشراقة المستقبل وإن ضاق عليه الحاضر. ودعوة الانفتاح هذه لا تريد إخراج الإنسان المسلم من العزلة الاجتماعية فحسب، بل تهدف إلى دفعه نحو الإيجابية في التعاطي مع الآخر، والتعاون معه في مواقع اللقاء على أساس أن هذا التفاعل الإيجابي يؤدي إلى خدمة مصلحة الإنسان عموماً وإلى إبراز الجانب العملي في الإسلام خصوصاً. وهكذا، لا نجد مانعاً من أن يمد الإنسان المسلم يده للآخر ليتشاركا معاً في رحلة الحياة، بما يخفف من ضغط الظروف والأوضاع القلقة عليهما، ومن هنا كنا نشجع دائماً على التعاون العلمي والاقتصادي والتربوي والاجتماعي بين الكيانات الإسلامية وغيرها من الكيانات، بما يفضي إلى خدمة المصلحة الإنسانية العامة. بل إن النظرة الإيجابية التي تحكم العلاقة مع الآخر تمتد إلى الجانب السياسي ليكون المسلم فاعلاً في المشاركة السياسية، ولا يكون دوره هامشياً في هذه العملية يستهلك ما ينتجه الآخرون من مصطلحات ومفردات ويتحرك وفق المنهج الذي رسمه الآخرون... ولذلك فإننا نرفض السلبية المطلقة في أداء الإسلاميين، بل ندعوهم إلى المرونة والإيجابية في التعاطي شريطة أن يتنبهوا إلى ما قد ينصب لهم من أفخاخ وما قد يُراد لهم من الوقوع في الشباك والأحابيل السياسية، إذ لا يجوز لنا ن نكون سذجاً في التعاطي مع الآخر الذي ينطلق من خطط مرسومة ومشروعات معدة، والذي يتحرك وفق مصالحه أكثر مما يتحرك ضمن منظومة قيم محدودة، وقد قال الإمام علي (ع): «إذا استولى الفساد على الزمان وأهله فأحسن رجلٌ الظن برجل فقد غرّر». وهذا ما يفرض على الإسلاميين الذين يدخلون المعترك السياسي والتحدي الحضاري أن يعيشوا الاستنفار الشامل لما يحيط بهم من حركة إعلامية وثقافية وفكرية وسياسية، فيلاحقون ذلك ملاحقة تفصيلية ليستطيعوا أن يكسروا هذا الطوق الذي يراد له أن يحاصر الإسلام في مفاهيمه والمسلمين في مواقعهم. والأمر الآخر الذي لابد من التنبّه إليه أن هذه المرونة المطلوبة في المشاركة السياسية وغيرها مشروطة بألا تؤدي إلى حال من الميوعة، بحيث يغدو الإسلام وسط هذه الممارسات بلا لون ولا طعم له ولا رائحة، ويتنازل المسلم عن ثوابته وقيمه، بل علينا أن نعمل على اختراق الآخر وتقديم فكرنا الإسلامي الأصيل إلى العالم، بما يجعلنا في موقع الهجوم فكرياً وحضارياً، لا أن نبقى في موقع الدفاع ورد السهام. وهذا ما يفرض علينا أن نتحرك في صناعة القوة، إن في الجانب السياسي العسكري والأمني أو في الجانب الفكري، من خلال تأصيلنا للمفاهيم الإسلامية وإدخالها في صلب العملية السياسية بعيداً عن اللغة الخشبية التي يستعملها البعض مع المسلمين والتي لا تجد لها آذاناً صاغية في هذا العالم، لأنها تنتمي إلى زمان قد تصرّم وإلى وقت اذن بالرحيل. إن معنى أن تكون كداعية وكإسلامي إيجابياً ألا تتعقد من المواقع، وألا تسقط أمام الواقع، وإن معنى ألا تكون سلبياً أن لا تعتدي على الآخر أو تتسلط عليه، لا أن تضعف أمامه، فالإيجابية لا تعني الضعف والذوبان في الآخر، كما أن رفض السلبية لا يعني الهروب من الواقع والابتعاد عن مواقع التحدي. ولذلك كانت دعوتنا المستمرة إلى الإسلاميين في العالم العربي والإسلامي أو في بلاد الاغتراب، إلى أن يدخلوا في صلب العملية السياسية، ولا يعزلوا أنفسهم عن المواقع وإن أدى ذلك إلى أن يرجمهم الآخرون بالحجارة بذريعة استغلال الدين وتوظيفه في العملية السياسية، لأننا نعرف أن العالم المستكبر يسعى دائماً كي يقيّدنا بقيمنا أو يضعنا أمام خيارين: الإيجابية التي تعني الخضوع لإرادته ومصالحه، أو السلبية التي تمثل حالاً من حالات النفي والإقصاء بحجة عدم انتمائك للعالم المتحضر وقيمه، لأنك تدافع عن بلدك في مواجهة الاحتلال، ما يعني أنك إرهابي مطرود من رحمة هذا العالم الذي لا يحترم إلا الأقوياء ولا يرضى لنا إلا بالانسحاق. وفي هذا الإطار، يمكن فهم الحملة التي تعرضت لها حركة «حماس» لمجرد تسجيلها أرقاماً ناجحة في الانتخابات الفلسطينية، الأمر الذي أثار الإدارة الأميركية وحتى الاتحاد الأوروبي الذي هدد ممثله سولانا، بقطع المساعدات عن السلطة الفلسطينية رافضاً مشاركة من لا ينبذ العنف في الانتخابات ليقال لـ «حماس» والفصائل الفلسطينية: ممنوعٌ عليكم أن تقاوموا الاحتلال وممنوعٌ عليكم أن تشاركوا في العملية السياسية والانتخابية، وإن مصيركم يا من تمثلون الأكثرية في كثير من مواقع الشعب الفلسطيني هو الطرد والإقصاء. إن معنى ذلك أن أميركا من جهة، والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى، يمارسان عملية إرهاب سياسي بامتياز ضد الشعب الفلسطيني ليتدخلا في خياراته وانتخاباته ويفرضا ضغوطاً جديدة عليه قبل الانتخابات التشريعية القادمة، وليقدما للعالم نموذجاً جديداً في صورة الديمقراطية الغربية القادمة إلى المنطقة تحت وابل من الضغوط السياسية والهجمات العسكرية والإعلامية. إن أميركا التي حاورت الفيتناميين وتحاور بعض فصائل المقاومة العراقية تريد أن تقطع كل مجالات وخيارات الحوار مع «حماس» وغيرها من فصائل الانتفاضة نزولاً عند الرغبة الإسرائيلية وخوفاً من النتائج السياسية التي قد يعكسها الحوار، وهذا يعني أن أميركا ليست جادة في كل دعوات الديمقراطية والحرية لأنها تمثل فريقاً إسرائيلياً بامتياز. إن هذا الموقف يمثل اعتداءً جديداً على الشعب الفلسطيني وعلى الفصائل والتيارات التي تحظى باحترام كبير في العالمين العربي والإسلامي، ما يعني استمرار مشكلة أميركا مع الشعوب العربية والإسلامية، لا بل ازديادها تعقيداً، ونحن نستغرب كيف أن أوروبا التي تعاين المأزق الأميركي في المنطقة تدخل في اللعبة نفسها وتنزلق إلى المنحدر نفسه، ما قد يجعلها تقطف النتائج نفسها. إننا أمام هذا المشهد وأمام الاعتراضات الغربية غير المسبوقة في رفض حديث الرئيس الإيراني عن المحرقة اليهودية ودعوته إلى استكشاف الحقيقة بشأن الأرقام الحقيقية لعدد القتلى من اليهود في هذه المحرقة نسأل: أين هي حرية التعبير التي تتغنى بها الإدارات والأوساط الغربية؟ وأين هي منظمات حقوق الإنسان الغربية؟ ولماذا تثور الدنيا أمام علامات استفهام ترسم بشأن مسألة كهذه، فيما يراد للمسلمين بأجمعهم أن يسكتوا عن كل الحملات التشويهية التي تطاول دينهم وعن الإهانات التي تتعرض لها رموزهم، وخصوصاً في التهجم والتطاول على النبي الأكرم (ص)؟ إن هذا العالم ينافق حتى وهو يثير الإيجابيات في هذه العملية الانتخابية أو في هذا التحرك الشعبي هنا وهناك، وعلينا ألا ننهزم أمام حملاته وضغوطه، لأن القوم فشلوا في هزيمتنا أمنياً وسياسياً ويُراد لنا أن ننهزم في المعركة الإعلامية والنفسية، وعلينا أن نعد العدة الثقافية والإعلامية للمواجهة حتى لا نخسر على جبهة ما قد نربحه في الجبهات الأخرى
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 1211 - الخميس 29 ديسمبر 2005م الموافق 28 ذي القعدة 1426هـ