تكتسب التجربة المغربية في مجال حقوق الإنسان أهمية خاصة لفرادتها، ولما يعلق عليها من آمال قد تفتح ثغرة في جدار الصمت العربي. العمل الحقوقي المغربي تميز بسياسة النَفَس الطويل، ولذلك استطاع الوصول إلى بعض الثمار، توجها اعتراف ملك المغرب وإشادته بما تمّ إنجازه من عمل. وعلى الأرض، وصلت القناعة عند الجهات الرسمية إلى حد التسليم بضرورة الإعتذار «عما سلف» من إساءات وتجاوزات بحقوق المواطنين. بل وصل الأمر إلى إنتاج فيلم عن قضية المعارض المغربي الشهير المهدي بن بركة، وتسمية أحد الشوارع الرئيسية باسمه. «الوسط» تعرض ورقة موجزة لـ «هيئة الإنصاف والمصالحة» المغربية، تتناول تجربتها في الكشف عن الحقيقة وتحديد المسئوليات، في سياق السعي المغربي الحثيث لتجاوز هذا الملف الإنساني المؤلم في تاريخ البلد الشقيق. عملت هيئة الإنصاف والمصالحة على فترة تاريخية تعد الأطول من نوعها مقارنة مع تجارب أخرى (43 سنة). وبالنظر إلى كون الانتهاكات الجسيمة المسجلة على امتداد هذه الفترة كانت نتيجة أزمات عنف سياسية ذات طبيعة متعددة شارك فيها فاعلون دولتيون، وغير دولتيين احياناً، وفي ظل غياب توثيق ذي صدقية، ودراسات اكاديمية تتناول مراحل معينة من تاريخ المغرب الراهن، فإن عمل الهيئة من أجل اقرار الحقيقة اتخذ اوجها متعددة. فقد مكنت جلسات الاستماع للضحايا التي بثتها وسائل الاعلام العمومية، ومئات الافادات المسجلة والمحفوظة في أرشيفات الهيئة، واللقاءات الاكاديمية وعشرات الندوات المنظمة من طرف الهيئة أو المنظمات غير الحكومية، من توسيع النقاش العمومي التعددي والرزين عن نصف قرن من التاريخ الوطني. كما مكنت هذه الأنشطة من التقدم بشكل ملموس في عملية اقرار الحقيقة بشأن عدة وقائع من هذا التاريخ وعدة انواع من الانتهاكات، ظلت رهينة الصمت أو الطابو أو الشائعات، وعلى رأسها مسألة الاختفاءات القسرية. غير أن هذا المفهوم استعمل خلال النقاشات التي عرفتها بلادنا بشأن قضايا حقوق الإنسان لوصف حالات وفئات مختلفة من الأشخاص مجهولي المصير، ولتوضيح هذه الحالات، تبنت الهيئة منهجية عمل زاوجت بين التحري الميداني والبحث الوثائقي. 1 التحريات الميدانية: قامت الهيئة بزيارات لعائلات الأشخاص مجهولي المصير واستقبلتهم بمقرها، للاستماع إليهم وتحديد مطالبهم وشرح مقاربة الهيئة والمنهجية المتبعة لتسوية هذا الملف. كما باشرت، في جلسات مغلقة، الاستماع الى شهود قضوا فترات الى جانب ضحايا لم يحدد مصيرهم. ونظمت زيارات معاينة لمراكز الاحتجاز السابقة واستمعت الى أشخاص اشرفوا سابقا على حراسة تلك المراكز. 2 البحث الوثائقي ودراسة السجلات والوثائق: قامت الهيئة بتجميع وتحليل المعطيات المحصلة من مختلف المصادر المتداولة وطنياً ودولياً (لوائح، تقارير...) التي تشير بشكل أو بأخر الى حالات اختفاء (لوائح المنظمات الحقوقية الوطنية، لائحة منظمة العفو الدولية). كما قامت بدراسة أجوبة الاجهزة الامنية، والقوات المسلحة الملكية والوثائق المتوافرة لدى اللجنة الدولية للصليب الاحمر بخصوص المفقودين على إثر النزاع المسلح بالأقاليم الجنوبية. وأفضى عمل الهيئة المتعلق بالاستماع ودراسة الأجوبة التي تلقتها من السلطات الى النتائج الآتية: اكتشاف أو تدقيق أو تحديد هوية 89 شخصاً توفوا رهن الاحتجاز ووقفت على أماكن دفنهم بكل من تازمامارت (31) واكدز (32) وقلعة مكونة (16) وتاكونيت (8) وكرامة (1) وقرب سد المنصور الذهبي (1). اكتشاف وتحديد هوية 11 شخصا توفوا على اثر مواجهات مسلحة والوقوف على اماكن دفنهم، 7 أشخاص منهم توفوا سنة 1960 (مجموعة بركاتو ومولاي الشافعي) و4 منهم سنة .1964 (مجموعة شيخ العرب). الانتهاء الى أن 325 من الاشخاص المدرجة اسماء بعضهم في عداد مجهولي المصير، توفوا على اثر الحوادث الاجتماعية الواقعة سنوات 1965 (50 وفاة) و1981 (114 وفاة) و1984 (49 وفاة)، موزعة على تطوان والقصر الكبير وطنجة والحسيمة والناظور، و1990 (112 وفاة) بسبب الاستعمال المفرط وغير المتناسب للقوة. وتوصلت الهيئة الى تحديد أماكن دفن بعضهم ولم تتمكن من التعرف على هوية البعض الآخر، وفي حالات أخرى تم التعرف على الهوية من دون تحديد مكان الدفن. وباستثناء حوادث 1981 بالدار البيضاء، خلصت الهيئة الى ان المتوفين تم دفنهم ليلاً في مقابر عادية وفي غياب عائلاتهم ومن دون تدخل من النيابة العامة. وبلغ الى علم الهيئة من مصدر طبي، أن العدد الاجمالي لضحايا حوادث يونيو/حزيران 1981 بالدار البيضاء بلغ 142 حالة، وهو عدد يلزم التأكد منه. الانتهاء أيضاً الى تحديد وفاة 173 شخصاً رهن الاعتقال التعسفي أو الاختفاء القسري في الفترة الممتدة من 1956 الى 1999 في مراكز اعتقال مختلفة... غير أنها لم تتمكن من تحديد أماكن الدفن. ارتبطت 39 وفاة بالسنوات الأولى للاستقلال في سياق الصراعات بين فاعلين غير دولتيين. و14 خلال الستينات وسجل عدد مرتفع خلال السبعينات إذ بلغت 109 وفاة، في حين عرف عقد الثمانينات والتسعينات انخفاضا ملحوظا في عدد الوفيات: 9 حالات في الثمانينات وحالتان في التسعينات. في سياق النزاع بالاقاليم الجنوبية، افضت تحريات الهيئة الى استجلاء مصير 211 حالة لاشخاص كانوا محسوبين في عداد المختفين: وفاة 144 شخصا خلال الاشتباكات المسلحة، تم تحديد هوية واماكن وفاة ودفن 40 منهم، بينما تم تحديد هوية ومكان الرفات من دون التمكن من التعرف على القبور بالنسبة إلى 88 حالة. كما لم تتمكن الهيئة من تحديد هوية 12 شخصاً من بين المتوفين، في حين تأكدت الهيئة من أن 4 أشخاص اعتقلوا ونقلوا الى مستشفيات على اثر اصابتهم بجروح خلال الاشتباكات، وتوفوا بها ودفنوا في مقابر عادية. 67 شخصا كانوا محسوبين في عداد المختفين ثبت للهيئة انهم سلموا إلى الجنة الدولية للصليب الاحمر نهاية اكتوبر.1996
خلاصة
بلغ إجمالي حالات الأشخاص الذين تم استجلاء الحقيقة عن مصيرهم: 742 حالة. حصول القناعة بخصوص 66 حالة تمت دراستها تجتمع فيها العناصر المؤسسة للاختفاء القسري وتعتبر الهيئة ان من واجب الدولة متابعة البحث بغية الكشف عن مصيرها. ومكّنت تحريات الهيئة من التقدم في مجال الكشف عن الحقيقة، ولذلك توصي الهيئة بالاستفادة من التجربة والعناصر والشهادات والمؤشرات وسبل البحث والتحريات المتراكمة، والتي تعتبر جزءا من ارشيف الهيئة. 3 واجهت الهيئة اثناء الكشف عن الحقيقة معوقات من بينها محدودية بعض الشهادات الشفوية وهشاشتها، وتم التغلب على ذلك باللجوء الى مصادر مكتوبة، وكذلك الحال المزرية التي يوجد عليها الارشيف الوطني والتعاون غير المتكافئ لبعض الاجهزة، إذ قدم البعض منها اجوبة ناقصة عن ملفات عرضت عليها، كما رفض بعض المسئولين السابقين المحالين الى التقاعد المساهمة في مجهود البحث عن الحقيقة. ترى الهيئة في نهاية ولايتها ان المهمات التي قامت بها تفعيلاً لاختصاصاتها، شكلت خطوة مهمة في النهوض بالحق في معرفة الحقيقة، من خلال ما ابتدعته من طرق واشكال لم تكن معهودة، ساهمت في رفع مستوى الكشف عن الحقيقة بشأن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي شهدتها بلادنا خلال الفترة السابقة
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1210 - الأربعاء 28 ديسمبر 2005م الموافق 27 ذي القعدة 1426هـ