ثمة بُعد أخلاقي يُنغّص على الشخص لحظات من سعادته حينما ينطق بـكلمة «وداعاً»، فيستعيض بمرادفتها: لـ «نلتقي» تخفيفاً لغصة في بلعومه غير قابلة لقياس مراراتها» خصوصاً مع من وجد روحه فيه، أو مع من تنفس الأوكسجين في فضائه، أو استنشق حرية الرأي والتعبير بسقفه المرتفع من نوافذ مفتوحة للهواء الطلق. هنا، لا يمكن... ويصعب في آن، القول وداعاً لنبتة اسمها الحرية تَنَفسّ الواحد فينا هواءها النقي، إن لم تسبق كلماته ترحيب لائق بها. إنها «الوسط» إذاً، تجربة لا تنسى الـ 115 مقالة رافضة ومرفوضة «للـ وعند التماثيل الجوفاء»، كتبتها منذ أبريل/نيسان 2004 حتى اليوم الذي أودِّع فيه العام ،2005 ولا أودعها في دنيا المواني، ليبقى المشهد والتواصل يحمل رونقه وبهاءه مع زملاء من بينهم من يملك سلطة قرار النشر في صحيفة كانت على الدوام تجيد فن احترام الكلمة الصادقة، والقبول بالآخر وتحترم عقول القراء من دون «تخبيط أو فذلكة، أو نفاق تعودنا عليه في صحف صفراء». وللأمانة، فخلال نحو سنتين من الكتابة في «الوسط» لم يُوقف رئيس التحرير مقالة واحدة من مقالاتي التي كتبت، أو شَطب كلمة، أو فقرة إلاّ فيما ندر، وبتوافق مهني متعارف عليه في أخلاق العمل الصحافي، حيث أحياناً يحتاج الصحافي «فرملة اندفاعاته»، بشرط ألا تُمس الفكرة أو «تمييعها» من قريب أو بعيد، بحذف حرف أو زيادة حرف (خصوصاً حرف الراء، إذا أضفته للحب، أصبح للحرب)، بخلاف تجارب سابقة مررت عليها مغبوناً في صحف أخرى كانت تمارس مهنة «الجزارة» بمقص الرقيب» فقط لأن ما يُكتب لا يمشي على مشيته، ولا يرى بعينه، ولا يسمع بأذنه، ولا يطرب لأنغامه... والأنكى من ذلك، إنه إذا ما اقتضت الضرورة «عند قائد الضرورة» لا يُستبعد ارتكاب مجازر ضد الأقلام البحرينية من دون وازع من ضمير مهني أو أخلاقي، منذ فترة ليست بالقصيرة كانت فكرة مشروع إصدار كتاب يتضمن بعض ما كتبته في «الوسط» و«الديمقراطي»، لسان حال «وعد»، والفكرة لازالت قائمة، وتسألون: لماذا «الوسط والديمقراطي»؟ لأن فيهما وجدت متنفساً لحرية التعبير من دون قيود أو وصاية، أو تدخّلات من أي كائن كان، وشعرت للمرة الأولي في حياتي الصحافية إنه لا يوجد سلطان على الكاتب في «الوسط» و«الديمقراطي» إلاّ ضميره، وهو شعار حاول المقاتلون من أجل حرية الكلمة تعميم ثقافته لتكون قاعدة أساسية لمبدأ الحريات الصحافية التي ينبغي أن تسود في كل وسائل الإعلام، المقروء والمسموع والمرئي، تماشياً مع روح العصر في الألفية الثالثة. شاءت الظروف أن تكون هذه المقالة التي تحمل رقم (115) آخر مقال أنشره اليوم عبر صفحة «قضايا» التي يشرف عليها الزميل قاسم حسين، والذي علّمه السجن على ما يبدو، القبول التام بالآخر من منطلقات وطنية معروفة عبر كتاباته الشجاعة والصادقة والملتزمة بقضايا الناس. وهذا «القاسم» الطيب أسجل له مشاعر لا يمكن أن تمحى لمجرد انتقالي من مكان إلى آخر، كما أسجل لمنصور امتناني لفتح صفحات «الوسط» لـ «متهم بالتطرف والاندفاع»، وقَبِل به عندما رفضه الآخرون، الذين من بينهم المؤسسات العامة والخاصة، ربما لطول لسانه، أو ربما لأسباب أخرى سجلت بقرار غير مكتوب لا يعلمها إلاّ المتنفذون، المتمرّسون في ممارسة خطف لقمة العيش من أفواه أبناء الصحافيين، وغير الصحافيين. عند المقالة (115) أتوقف عن الكتابة في الصحيفة التي أحببت ومنحتني كل ما يتمناه أي صحافي من سقف مرتفع للحريات، لأنتقل «بروح رياضية» إلى أخرى، أعتقد إنها لا تقل اهتماماً بهذا الجانب المهني والروحي لمفاهيم نشر وتعزيز مبادئ ثقافة حرية التعبير عن الرأي، باعتبارها من الأسس الضرورية لإيجاد إعلام حر ومستقل، وألتقي بناس طيبين، كما قال دوستوفسكي: «الحياة في كل مكان هي الحياة، هي في داخلنا وليست هي فيما هو خارج عنا. إذا كان هنا رجال وأنا رجل من بينهم» وإذا كان هناك رجال، فحتماً سأكون رجلاً من بينهم». هذه الكلمة الشهيرة لدوستوفسكي، أحد أعظم الروائيين الروس، وأحد أبرز كتاب روائع الأدب العالمي في القرن التاسع عشر، قالها عندما قررت السلطات القيصرية نفيه إلى سيبيريا عقاباً على كتاباته، أو «مشاغباته» ومعارضاته التي أزعجت النظام الروسي آنذاك في سان بتروسبورغ ومناطق مختلفة من روسيا القديمة. وواضح من ذلك، أن البشر عندما ينتقلون من مكان إلى آخر، طوعاً أو قسراً، تبقى مكانتهم بين محبيهم في المكان القديم أو الناس الجدد المقبل للتعارف معهم» والحياة هي ذاتها في داخلهم، فمادام هناك بشر وهنا بشر، فإن المواقف المبدئية من عدمها متوقفة على الشخص ذاته.
العدد 1209 - الثلثاء 27 ديسمبر 2005م الموافق 26 ذي القعدة 1426هـ