العدد 1209 - الثلثاء 27 ديسمبر 2005م الموافق 26 ذي القعدة 1426هـ

سلطة الصندوق

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

في لبنان بدأ الحديث يرتفع بشأن احتمال «فرط» المجلس النيابي والدعوة إلى انتخابات مبكرة تصحح التوازنات بين الكتل البرلمانية وتعيد تأسيس غالبية جديدة مختلفة عن تلك التي أسفرت عنها الدورة الأخيرة التي عقدت بعد اغتيال رفيق الحريري وانسحاب القوات السورية. وفي العراق جرت مظاهرات في مناطق ومدن تقع في المحافظات التي يغلب عليها الطابع السني العربي تتهم الهيئات التي أشرفت على فرز الأصوات بالتزوير، وتطالب بإعادة النظر في التمثيل النسبي الذي اعتمده القانون الانتخابي. وفي فلسطين هناك مخاوف لدى السلطة وبعض أطراف حركة «فتح» من احتمال فوز «حماس» بالغالبية النيابية في حال استمرت خلافات السلطة وامتداداتها الحركية، مضافاً إليها تلك الضغوط الدولية (الأميركية والأوروبية) التي تريد ابتزاز الشعب الفلسطيني والتأثير على قناعاته واختياراته. وفي مصر، وهي الدولة الأكثر تماسكاً في تكوينها الاجتماعي وتطورها الاقتصادي وتجانسها السكاني، دخلت العملية الانتخابية التي جرت حديثاً في تجاذبات أهلية بين السلطة وحركة الإخوان المسلمين. مضافاً إليها مخاوف عبّرت عنها جهات متعددة من احتمالات ذهاب قوة الشارع بعيداً في التأثير على التوازنات السياسية بين شرائح المجتمع. وعلى القياس نفسه يمكن تقديم عشرات الأمثلة العربية المشابهة في تونس والجزائر والمغرب واليمن وغيرها من بلدان حديثة العهد في التعامل مع صناديق الاقتراع والقوانين الانتخابية. في كل مكان هناك مشكلة مع الصناديق. ففي الدول التي تتشكل بنيتها الاجتماعية من جماعات متنوعة طائفياً ومذهبياً ترفض الأقليات غلبة الأكثريات. وفي الدول التي تتجانس بنيتها المذهبية والطائفية تنقسم لوائحها وتحالفاتها على أساس مناطقي وأقوامي أو قبلي وعشائري وتأخذ الفئات بالتراشق الكلامي والتشكيك في النتائج انطلاقاً من مبدأ عدم الاعتراف بالهزيمة ورفض قبول غالبية الآخر من طريق الصندوق. وفي الدول المتجانسة اجتماعياً كمصر وتونس مثلاً تذهب الشكوك نحو الانقسام الأفقي بين السلطة والمجتمع وتأخذ الانتقادات اتجاهات تصادمية على المستوى السياسي. في الجزائر مثلاً لجأت السلطة إلى إلغاء الانتخابات التي جرت في تسعينات القرن الماضي، لأن الصناديق جلبت إلى المجلس النيابي غالبية إسلامية. وكان رد النخبة العسكرية الحاكمة على قناعات الناس واختياراتهم اعتقال الفائزين في الانتخابات واستبدالهم بالساقطين فيها. هناك الكثير من الأمثلة المتشابهة يمكن إدراجها كنماذج متنوعة على أزمة الثقة بين الجماعات الأهلية وصناديق الاقتراع. فالناخب لا يثق بسلطة الصندوق ويرى فيه مجرد وسيلة فولكلورية للتعبير عن رأيه وليس بديلاً عن تلك السلطة (العصبية) الموروثة من علاقات الاجتماع والمعترف بها عرفاً. كذلك تقبل «العصبية» النتيجة إذا كانت متطابقة مع أهواء قوة السلطة المتوارثة عرفاً ولا تقبل بالنتيجة إذا جاءت مخالفة لقناعاتها. وأزمة الثقة بين الجماعات الأهلية وصناديق الاقتراع لا تقتصر على الناس بل تشمل أيضاً الدولة وما تمثله من أدوات حكم وتحكم بمصادر القوة والمال. هناك مشكلة إذاً. وهذه المشكلة عامة في مختلف الديار من المحيط إلى الخليج. ولكنها في المجموع ليست واحدة بل تتعدد بحسب تنوع ظروف المكان والزمان وتوزع الجماعات الأهلية. فالكل يريد الصندوق إذا جاءت الأوراق تؤكد حساباته الخاصة في توازنات القوة والغلبة. والكل يرفض الصندوق إذا حملت الأوراق نتائج تخالف قناعاته المسبقة واتجاهاته المبنية على خصوصيات منطقته أو طائفته أو عشيرته. وهذا الأمر السلبي يعطي فكرة موجزة عن صعوبات التطور السياسي في بلدان ممزقة في تكوينها الاجتماعي وغير متفقة على هوية وطنية جامعة. فالولاء في هكذا بلدان لا يمكن قياسه على اسم الكيان المشترك (الدولة) لأنه في أساسه التاريخي غير موحد وينقسم إلى حلقات يتداخل فيها الطائفي بالمذهبي والمذهبي بالعشائري والعشائري بالمناطقي وصولاً إلى قعر الانتماءات وأصغرها الدولة. والأصغر دائماً هو الأضعف أو تلك الهوية الجامعة التي لاتزال حتى الآن مفقودة أو هناك خلافات على تحديد نوعها ولونها وشكلها ومساحتها ووزنها وحجمها. في لبنان والعراق وفلسطين ومصر وغيرها من بلدان عربية جرت الكثير من الانتخابات وحتى الآن هناك القليل من يؤمن بحق الصندوق في إنتاج السلطة.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1209 - الثلثاء 27 ديسمبر 2005م الموافق 26 ذي القعدة 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً