أعادت الحكومة المرسوم رقم (47) لتنظيم الطباعة والصحافة والنشر إلى مجلس النواب بتعديلات جزئية بدت أسوأ من القانون في نسخته الأولى التي فرضتها الحكومة قبل بدء أعمال مجلس النواب، وكانت موضع اعتراض الجسم الصحافي بأكمله. فهناك 22 مادة في القانون لم تعدل، أو أنها عُدّلت جزئياً على رغم المطالبة بتعديلها من قبل اللجنة التي شكلتها الحكومة ومن قبل الصحافيين. وقد تسلمت بصفتي أميناً عاماً لنقابة الصحافيين رسالة من رئيس مجلس النواب خليفة الظهراني يطلب فيها تزويد لجنة الخدمات بالمجلس رأي النقابة في القانون وتعديلاته. وقدمت النقابة بدورها رأياً مفصلاً في القانون المذكور، وقدمنا للجنة أربع وثائق تفصيلية تتضمن مقارنة بين المرسوم رقم (47) ومسودة القانون المقترحة من قبل مجلس الشورى التي نرى أنها أفضل بكثير من القانون على رغم تعديلاته الجزئية. وتضمنت الوثائق الأربع أيضاً مذكرة تفصيلية تعرض فيها النقابة أهم المبادئ والأسس التي يجب أن يستند عليها أي قانون للصحافة في مجتمع حر وديمقراطي. لم تكتفِ النقابة بذلك، بل إنها مضت في مناقشة عقلانية لكل بند من بنود القانون بالأسانيد والبراهين والأمثلة والسوابق الدستورية والقانونية. هذا الرأي تم صوغه بعد مناقشات مستفيضة مع أصحاب الاختصاص من محامين وقانونيين يملكون خبرات واسعة. إن القانون بصيغته الراهنة وتعديلاته هذه لم يستجب للحد الأدنى من مطالبات الصحافيين، ومازال يمثل برأينا عائقاً كبيراً أمام ترسيخ حرية التعبير وترسيخ صحافة حرة ومسئولة. والأهم أنه يشكّل عقبة كبرى أمام تطور الصحافة في بلادنا بشكل كبير، من حيث اشتراطه للرساميل الباهظة بما يقصر إنشاء الصحف والمجلات على أصحاب الرساميل الكبرى. الأكثر من هذا أنه ضاعف القيود على تأسيس الصحف والمطابع ودور النشر والمكتبات ودور قياس الرأي العام ومكاتب العلاقات العامة، بحيث جعل ترخيصها يصدر من وزارتين لا وزارة واحدة: ترخيص أول من التجارة كشركة، وترخيص ثان من وزارة الإعلام بشروط وقيود لا أول لها ولا آخر. ولم يخلُ الأمر من مفارقة عندما وجدنا أن قانون العام 1979 كان يكتفي للترخيص للمطابع بأن تحصل على رخصة من وزارة التجارة وتقوم فيما بعد بإخطار وزارة الإعلام بالترخيص. لكن القانون 47 وتعديلاته أضاف قيداً جديداً عندما جعلت الترخيص مزدوجاً من التجارة ومن الإعلام أيضاً. ووجدنا أن القانون رقم 47 نفى حرية التعبير تماماً باشتراطاته واستثناءاته التي لا تحدّ، والصيغ الفضفاضة للعبارات بطريقة تجعل تفسير حرية التبعير أمراً شاقاً ومحاطاً باستدراكات واستثناءات لا أول لها ولا آخر. فقد وضع شروطاً للكتابة حول الأوضاع الاقتصادية بصيغ ملتوية بحيث إن النص يفهم منه أن الكتابة في الشأن الاقتصادي تستلزم إذناً من القضاء. وراح يفصل أكثر بالصيغ الملتوية نفسها عندما جعل الكتابة عن الشخصيات العامة وذوي الصفة النيابية مكتوبة بكلمات تجعل من الصعب غداً أن نقرأ نقداً لنائب أو موظف عمومي لأنه بصوغه ذلك أعطى تلك الشخصيات نوعاً من الحصانة حيال النقد. وبلغ ذروته في التقييد عندما حوّل رؤساء التحرير إلى مجرد رقباء رسميين لا همّ لهم سوى مراقبة كل ما ينشر في صحفهم، لأنه جعلهم مسئولين عن كل كلمة تنشر في صحفهم عندما وضع فهماً مقيداً للغاية لمسئولية التضامم. قدمنا سابقة قانونية في هذا الصدد تتمثل في حكم للمحكمة الدستورية المصرية العام 1979 قضى بأن من الاستحالة اعتبار رئيس التحرير مسئولاً عن كل كلمة تنشر في الصحيفة وأعاد التأكيد على مبدأ شخصية المسئولية الجنائية. لن يتبيّن ما في هذا القانون من روح معادية لحرية التعبير وضيق بالنقد إلا عندما نعرف أن القانون أبقى على عقوبة الحبس الاحتياطي للصحافي على رغم كل المطالبات، وعلى رغم كل ما تقدمت به اللجنة التي شكلتها الحكومة نفسها لتعديل القانون، وعلى رغم كل هذا الإحساس العالي بالمسئولية التي يمارسه الصحافيون منذ زمن طويل وحتى اليوم. ورحنا نرى أن مسألة هذا القانون وحرية التعبير أصبحت مادة أخرى للتسريبات ولعبات الكواليس والمساومات عندما بدأنا نتابع في الآونة الأخيرة لعبة بالونات الاختبار والتسريبات وتخدير الوعي. إننا نقول هنا: حذارِ ثم حذارِ ثم حذارِ» لم نصبر طيلة هذه العقود من غياب حرية التعبير ولم نناضل طيلة هذه العقود الطويلة لنيل حرية التعبير لكي نأتي في النهاية ونجد أن حرياتنا معرضة للمساومات والتأتأة واللعثمة والاجتهادات القاصرة التي تريد أن تفصل الحريات على المقاس وتقضم جزءًا هنا وجزءًا آخر هناك. لم نناضل طيلة هذه العقود أمام تعسف الحكومة لكي نجد أمامنا بالنهاية برلماناً منتخباً يبدو أكثر ضيقاً بحرية التعبير.
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 1208 - الإثنين 26 ديسمبر 2005م الموافق 25 ذي القعدة 1426هـ