تحدث في مصر أشياء كثيرة، وتفتح عدد من الملفات تقنع المتابع أن حراكاً في المجتمع المصري يجري على نطاق واسع وبشكل حثيث، أهم الملفات على كثرتها، ملف القضاء، وهو مهم لأنه مرتبط بالحريات وبتقدم الشعوب أو تأخرها. فالقضاء (الجالس أو الواقف) والأول أهم، إن صلح صلُح المجتمع، وإن شابته الشوائب أيا كانت، فقد قضي على المجتمع برمته بالتدهور وسادته الفوضى، إذ العدل أساس الملك. ولقد ثبت من تاريخ العرب الحديث أن أي مشروع وطني مستقل من دون قضاء مستقل وقوانين عادلة هو بمثابة إطلاق الذئاب على النعاج، ونعاج خائفة لا تدر لبناً ولا تدافع عن وطن. ينقل عن أحد رؤساء الوزارات البريطانية بعد الحرب العالمية الأولى أن نمى إليه فساد كل شيء في الدولة، فسأل: وماذا عن القضاء؟ قيل له قوي وسليم لم يمس، فقال: ستعود الأمور إلى نصابها ما دام القضاء بقوته واستقلاله. لعبدالناصر قضية أخرى مع الحريات، فقد نقل إلينا علي السمان في مذكراته الغنية التي صدرت أخيراً في كتاب «أوراق عمري»، فحوى لقاء عبد الناصر بجان بول سارتر في الزيارة الشهيرة لمصر في منتصف ستينات القرن الماضي، وكان السمان هو المهندس الحقيقي لتلك الزيارة. سارتر كان يحمل حملات شعواء في مجلته الأزمنة الجديدة المنتشرة وقتها، على نظام عبدالناصر كونه يفتقد إلى الحرية، في حين مناصرة المجلة للثورة الجزائرية. وعند لقاء الاثنين مباشرة (عبدالناصر وسارتر) برر الأول للثاني فلسفة الاعتقال في مصر وقتها كونها حماية للمعتقلين، لأنهم لو قدموا للقضاء وصدر الحكم عليهم، فلن يتمكن عبد الناصر من إطلاق سراحهم، أما الاعتقال فإن تغيرت الظروف السياسية يمكن أن ينظر في شأنهم، تلك فلسفة سارت عليها أنظمة عربية كثيرة بعد ذلك، ومازالت مع الأسف مطبقة في بعض دولنا العربية، ومركز تلك الفلسفة هو تغييب القضاء النزيه، إلا أنها في صلبها استهتار بالقانون والنظر إليه على انه شيء ثانوي، على رغم أهميته القصوى في التشكل الحضاري والإنساني، فهو الذي يحفظ التوازن في النسيج الاجتماعي كما يحفظ التوازن في العلاقات الدولية. القضاء من حيث المبدأ يطبق القوانين المرعية، ولكن تلك القوانين في الكثير من بلادنا إما وضعت تعسفاً أو كُيّفت تعسفاً. لذلك فإن إصلاح القضاء مع وجود قوانين إنسانية وحديثة، هي ملجأ وممر لتطور مرتجى في هذه المنطقة من العالم. هنا يأتي موضوع القضاء في مصر، فقد قام هذا القضاء بالإشراف على الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وحدثت خروقات تحدثت عنها الصحافة المصرية بإسهاب. إلا أن اللافت أن نادي القضاة المصري تجاوب مع النداءات فاحتشد 7 آلاف قاض في ناديهم قبل أسبوعين وانتخبوا لتمثيلهم بغالبية كاسحة لائحة لها مطالب محددة، من بينها التحقيق الشامل في خروقات الانتخابات مع الإشارة الواضحة، إلى أنه إن لم يتم التحقيق المتوازن، فإن اللجوء إلى الجهات الدولية سيكون وارداً، مع مطالبة أوسع باستقلال القضاء. وتجاوب الرئيس حسني مبارك في خطابه في افتتاح مجلس الشعب، إذ أشار في ذلك الخطاب إلى تقديم الحكومة لمسودة قانون يتيح استقلال القضاء، بل واحتمال تشكيل مرجعية قضائية مستقلة لتفسير أحكام الدستور. «تلوث القضاء» هو أحد المرتكزات التي لا يعنى بها في خضم الضجيج السياسي الدائر في منطقتنا، فالشعارات المرفوعة ستغدو لا معنى لها من حقوق إنسان إلى ديمقراطية إلى حقوق الأقليات إلى المساواة إلى تحقيق الحريات والعدالة، إن لم يكن هناك قضاء مستقل وقوانين عادلة. حقيقة الأمر، إن تم تلويث القضاء فلا معنى لكل الشعارات المطروحة. السلطات التنفيذية العربية، منذ ابتكار فكرة (حماية المعارضين باعتقالهم)، دأبت على إلحاق القضاء بالسلطات التنفيذية، فقلّصت منطقة القاضي القانونية إلى الصفر تقريباً، وظهرت قوانين الطوارئ، والمحاكم العسكرية والاستثنائية إلى آخر ما واجهه جيل كامل من العرب من تلاشي الحريات. وليس غريباً انه بعد 4 عقود تقريباً من مقابلة جان بول سارتر لعبدالناصر والشكوى من نقص الحريات، أن يعتمد تقرير التنمية الإنسانية في البلاد العربية الصادر من الأمم المتحدة التعبير نفسه «تقليص الحريات»، كأحد المعوقات الثلاثة الكبرى للتنمية العربية، والإشارة إلى الدولة العربية في ذلك التقرير بدولة «الثقب الأسود»، والذي يحول المجال الاجتماعي المحيط إلى ساحة لا يتحرك فيها شيء. ربما كانت معضلة لبنان اليوم في البحث عن «محكمة دولية» لمحاكمة المتهمين في اغتيال المرحوم رفيق الحريري، تبيّن لنا من جانب نقص الثقة في القضاء، لا بسبب شخوصهم، بل بسبب ضيق القدرة على الاستقلال في الأحكام بسبب ضغوط السياسيين. وكثير من المتهمين وخصوصاً السياسيين فيما بعد، لم يكن لهم مفر من مواجهة قضاء مسيس غير مستقل، إلى جانب وجود قوانين تطبق على المزاج الشخصي، إذ طغيان شآن قوم بعينهم على السلطة. غياب القانون أو غياب العدل أو تطبيق القانون بشكل انتقائي، أو تطبيقه بقراءة واحدة متحيزة، تفرز في المجتمع بشكل تلقائي تياراً من الإحساس بالهوان يقود إلى أشكال مختلفة من الصدام. ولعل مشاهدة محاكمة صدام حسين وفرقته تقودنا إلى التفكير في أهمية أن يحصل حتى الدكتاتور الملطخة يده بالدم، على محاكمة حقيقية وواضحة تسمع فيها وجهات النظر وتمحص الحقائق. وضيق صدر البعض من إجراءات المحاكمة تلك تدل على ثقافة لا تطيق متابعة الحقوق وإجراء المقارنات والتوصل إلى الحقائق الدامغة ومن ثم إصدار الأحكام. من هنا نتبيّن أن حراك القضاء المصري له أهمية تاريخية بالغة الشأن في التطور السياسي لهذه المنطقة، فالاستقلال الكامل للقضاء في مصر ووضع قوانين عادلة، يشكل سابقة ستؤثر على بقية الدول المجاورة من أجل الاقتداء بها عاجلاً أم آجلاً، في ضوء التأثيرات التاريخية لمصر وتطور تقنية الاتصالات وحاجات المجتمعات العربية المتنامية للعدالة
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1208 - الإثنين 26 ديسمبر 2005م الموافق 25 ذي القعدة 1426هـ