في جلسات اليوم الثاني من ندوة «العدالة الانتقالية»، التي تنظمها اللجنة البحرينية لحقوق الإنسان بالتعاون مع المعهد العربي لحقوق الإنسان، تحدّث الضيف المغربي أحمد شوقي بنيوب عن آليات العدالة الانتقالية، ودور المنظمات غير الحكومية في إنشاء واستخدام هذه الآليات. الرجل القادم من المغرب الشقيق، تحدّث عن بلاده التي مرّت بظروف مشابهة لبلادنا من حيث انتهاكات حقوق الانسان وسحق كرامته، وتمرّ حالياً بما يعرف بـ «العدالة الانتقالية»، التي تلبي حاجةً نفسيةً وماديةً ومعنويةً للمتضررين، وتؤسس أيضاً لبناء مستقبل أفضل لعموم الوطن. في هذه الفترة الانتقالية الحاسمة، استمع المغاربة إلى قصص ومآسي ضحايا فترة «حكم الأجهزة» وتغييب القانون، وبالمقابل جاء الاعتراف الرسمي بـ «ما سلف» من الأخطاء، وتقديم تعويضات مادية للمتضرّرين، على أمل التأسيس لثقافة حقوقية تضمن عدم العود إلى تلك المخازي والانتهاكات. يقول بنيوب: «إن لجنة الحقيقة والمصالحة تقوم على مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان وحكم القانون، وتعمل على معرفة وكشف الحقيقة، وجبر الضرر، وتحديد المسئوليات وضمان عدم التكرار». ولفت بنيوب إلى أن «لجان الحقيقة» تعمل من أجل حلّ مشكلات الماضي وتتوجه للمستقبل، وبذلك تندمج في قلب عملية الإصلاح، مفترضاً انها «تمتلك القدرة على إنجاز الممكن في ظروف يبدو فيها الانجاز مستحيلاً». الرجل يتكلم عن تجربة ميدانية بلاشك، ولكن لو فكّرنا في وضعنا البحريني، سنرى هذا الملف يواجه مزيداً من التعقيدات والعقبات، من تراجع الرغبة الحكومية في حل المشكلة... إلى يأس الرأي العام من استرداد الحقوق العامة، بمن فيهم ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان. على أن العقدة الكبرى تتمثل في قانون ،56 الذي اعتمد على ترويج شعار «عفا الله عما سلف»، على افتراض ان ينسى الضحية كل ما لاقاه من أذى وعسف وقهر ومعاملة مزرية في معتقلات وسجون «أمن الدولة»، التي كان بعضها يشبه قلاع القرون الوسطى التي تشاهدونها في الأفلام التاريخية. سنواتٌ مريرةٌ كانت تمنع إدارات السجون المتعسّفة الماء البارد عن السجناء في عزّ فصل الصيف، فضلاً عن افتقار الزنزانات إلى مرواح كهربائية أو تكييف. ظروفٌ أقل ما يقال عنها انها فظيعةٌ وغير إنسانية وغير أخلاقية. ومن العار أن تماطل الحكومة أكثر في إنصاف هؤلاء الضحايا، لتبقي المشكلة جرحاً مكشوفاً يتفجّر بالحقد والضغائن وكراهية النظام في كل حين. عجيبٌ جداً أن يقال لمن يطالب بالعدالة والإنصاف: «عفا الله عما سلف»، فالعملية أقرب للسخرية والاستخفاف بعقول البشر. فلم يعد مقبولاً بعد اليوم غير البحث الجاد عن علاج لهذه المشكلة المخجلة، لتتخلص البحرين، هذه العروس التي نحبها، من إحدى لطخات العار في تاريخها الحديث. والمؤسف جداً أن يضطر المرء أحياناً للنقاش في المسلمات وإثبات البديهيات، فمن أبسط الخطايا التي حاربها الإسلام الغيبة، إذ ربط المغفرة بالاعتذار أولاً من الضحية (مع أن الأذى قد لا يتعدى الكلام). هذا على مستوى خطيئة اللسان، فكيف بمن جرّد الانسان من حريته التي وهبها الله له، أو انتهك حقوق العباد الأساسية، أو قتل في الشارع من خرج مطالباً بالإصلاح في بلاده، وبحكم القانون وعودة البرلمان لضمان حفظ حقوق الشعب؟ من هنا فإن المطالبة بنسيان الماضي (مجاناً) كما تنسى الأحلام، وادعاء «عفا الله عما سلف»... هذه الأحلام «المخابراتية» تأويلاتٌ باطلةٌ جملةً وتفصيلاً. وهي باطلة حتى من الناحية السياسية البحتة، لأنها لا تحلّ المشكلة، وانما تضع عقبة أخرى في طريق الحل بتعمد التأجيل والمماطلة في العلاج. وهي تأويلاتٌ باطلةٌ جملةً وتفصيلاً، لأنها تصطدم أيضاً بالقناعات الإسلامية الكبرى، ففيها ادعاءٌ قبيحٌ بالتحدّث باسم الله، وتحريفٌ لكلامه، فما نعرفه ان الله لا يغفر لمن يتعدّى على عباده، إلاّ إذا تاب وآمن وعمل صالحاً كما في آيات القرآن. ما نعرفه أولاً وأخيراً، ان الله لم يغفر بعد لمن لم يعترف بخطئه أصلاً، ولم يفكّر في الإعتذار من الضحايا، ولم يفكّر بعد في جبر الضرر والأخذ بخواطر المتظلمين والمظلومين وهم بالألوف في هذا الوطن. المسألة ليست ترفاً ولا مماحكات ولا حديث صالونات ثقافية أو نخب سياسية، وانما مشكلةٌ انسانيةٌ يحتاج حلها إلى قرار سياسي شجاع. والحل يبدأ بالصراحة مع النفس، والاعتراف بوجود وصمة عار مخجلة منذ ثلاثة عقود، لم تفلح سنوات الإصلاح في حلحلتها من مكانها حتى الآن
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1208 - الإثنين 26 ديسمبر 2005م الموافق 25 ذي القعدة 1426هـ