إن المتتبع لحركة المشروعات التطويرية لوزارة التربية والتعليم يجد أن هناك الكثير من المشروعات الفريدة التي تستحق التوقف عندها والإشادة بها. ولعل مشروع تأسيس وإنشاء مركز للموهوبين والذي من المزمع افتتاحه مطلع العام المقبل، يعد من الإنجازات التربوية الفريدة ليس على مستوى البحرين فقط وإنما على مستوى الخليج أيضاً، مع الإشارة إلى أن المملكة العربية السعودية سبقتنا في هذا المجال كثيراً، وكان لها الدور الأكبر على المستوى الخليجي، في مجال رعاية الموهبة، إذ بدأ اهتمامها في مجال رعاية الموهوبين والكشف عنهم بالبحث الوطني العام ،1997 والذي كان يهدف في الأساس إلى الكشف عن الموهوبين ورعايتهم، وتم من خلاله إعداد وتقنين مقاييس واختبارات في الذكاء والقدرات والتفكير الابتكاري» للكشف عن التلاميذ الموهوبين وتطوير البرامج الإثرائية في مجال العلوم والرياضيات، كنماذج لأساليب الرعاية، وكيفية توعية المجتمع عن الموهوبين. ونأمل أن يكون المركز واحة توافر الأمن والأمان لأبنائنا الموهوبين، الذين يحتاجون إلى الأخذ بأيديهم، ويكون قادراً على تحمل الدور المنوط به من خلال توفر الكوادر المتخصصة المدربة» ليتمكن من تحقيق رسالته التي تسعى إلى الكشف عن المواهب بأنواعها المختلفة، وفي جميع المراحل الدراسية أولاً، وتقديم الرعاية والاهتمام لأنواع المواهب من خلال البرامج المقدمة لهم ثانياً، إذ إن فئة الأطفال الموهوبين، تعتبر واحدة من أهم الفئات الرئيسية التي تقع تحت مظلة التربية الخاصة، شأنها في ذلك شأن الفئات الأخرى، من فئات الأطفال غير العاديين، التي تحتاج إلى رعاية واهتمام بشكل خاص، من حيث طرق وأدوات الكشف عنهم، وتشخيصهم ووضع البرامج التربوية لهم، وطرق وأساليب التدريس الخاصة بهم. والمتتبع لتاريخ الموهبة والموهوبين يرى أن الاهتمام بداية دراسة الموهبة بشكل واضح كان في نهاية الخمسينات، وقد ارتبط هذا الاهتمام بظروف التحدي الذي واجهته الولايات المتحدة الاميركية بعد الحرب العالمية الثانية، لسبق روسيا لها في غزو الفضاء، إذ تمثل القدرات البشرية مكانة لا تقل أهميةً عن تلك التي تحتلها الامكانات المادية في مواجهة ظروف المستقبل المتغيرة، لأن أي عمل ثقافي يقوم أساساً على الفكر والجهد الانساني، بعدها على الامكانات المادية. وإذ إن الموهبة من الظواهر الفريدة التي اختص الله بها فئة متميزة ومحدودة من البشر، تتميز بالقدرة على الخلق والابداع لمواجهة التحديات. ومن حسن الطالع ان الانسان انتبه لهذه الظاهرة منذ زمن بعيد، وإن كان الإنسان أرجعها قديماً إلى قوى خارقة أو أمور غيبية، كالسحر والشعوذة، نظراً لمحدوية قدرته على تفسير وتحليل الأمور، كعادة الإنسان القديم إذا عجز عن تفسير أية ظاهرة من الظواهر، فيرجعها إلى أسباب غير منطقية كما يحدث في الوقت الحاضر أيضاً. في العصور القديمة أدرك المصريون الذين ألّهوا الفراعنة بسبب قوتهم وجبروتهم، واليونانيون الذين سموا الموهوبين بالفلاسفة الذين يجب أن يكونوا حكام جمهورية أفلاطون، في حين رأى الفيلسوف سقراط أن الموهوبين لديهم قوى تدفعهم وتحثهم نحو الإبداع والتميز، كتلك القوى الموجودة في المغناطيس. وكان نصيب الأطفال الموهوبين لدى اليونان أن حظوا بنصيب وافر من الرعاية والاهتمام، إذ يتم اختيار الأطفال ذوي القدرات القيادية والفصاحة اللغوية منذ الطفولة المبكرة ويدرسونهم العلوم والفلسفة والفيزياء في فصول خاصة. كذلك الحال بالنسبة إلى روما، فقد قدمت لأطفالها الموهوبين الرعاية والاهتمام لأغراض الجيش والحرب. أما في الصين، فكان يقدم لهم العلم والإقامة المجانية باعتبارهم كنزاً يجب حمايته، وقد وضعت الامبراطورية الصينية مثلاً نظاماً معقداً لاختيار الموهوبين من أبنائها لتولي الأعمال الحكومية، وذلك في مرحلة مبكرة جداً من التاريخ. وقد تنبّه أفلاطون منذ ألفي عام تقريباً إلى هذه الفئة، وضرورة الكشف عن القادرين من الشباب من أبنائها بصورة مبكرة، والحث على ضرورة العمل على تربيتهم وإعدادهم» ليكونوا قادة المستقبل، وطالب بأن تخصص لهم أنماطاً خاصة من التعليم، حتى يمكن توفير القيادات التي ترعى الدولة، وقد كان يشعر بأن بقاء الديمقراطية الإغريقية يتوقف بدرجة كبيرة على قدرتها على تربية وإعداد أبنائها من متفوقين وموهوبين لتولي المراكز القيادية في المجتمع. والسؤال الذي يطرح نفسه: ماذا قدمنا نحن لأطفالنا الموهوبين؟ هذا السؤال لا يطرح على وزارة التربية والتعليم فقط، ولكنه يطرح أيضاً على جمعية الموهبة والابداع البحرينية التي استبشرنا خيراً عندما اشهرت، واعتقدنا بأنها ستسد فراغاً طالما خلفته وزارة التربية، ولكن «ليس كل ما يلمع ذهبا». نتابع أيضاً موقف ولاة العرب من الأطفال الموهوبين وماذا كانوا يفعلون لهم، فعلى سبيل المثال لا الحصر، كانوا يوفدون الرسل للبحث عن النابهين من الشباب في أرجاء الولاية ليأتوا بهم إلى القصور» حتى يتلقوا التعليم المناسب» للاستفادة من طاقتهم الفريدة بقدر الامكان في شئون الدولة من إدارة وحكم، كما كان بيت الحكمة ببغداد بمثابة المركز الذي يضم الموهوبين والعلماء، فهل لنا أن نؤسس لأمر مثل ذلك؟ الفكرة التي أريد أن أوضحها أن الطفل الموهوب الذي يستحق الاهتمام به والذي يتمتع بسمات وجوانب تميز في مجالات كثيرة ومهمة، يمكن استثمارها، لا يمكن لها أن تنمو أو تزدهر من خلال عزله عن المجتمع التعليمي، وبالتالي فكرة الدمج هي الفكرة الأكثر قبولاً من أية فكرة أخرى. الهاجس الذي يسيطر على غالبية المتابعين والمتحمسين للمشروع والذي طالما نغص عليهم فرحتهم بالمشروع هو أن يكون المركز بمثابة المعتقل التربوي للطفل الموهوب بحيث ينشأ ويتربى بعيداً عن الأطفال الآخرين، وبالتالي يوصم بالطفل الموهوب في حين أن الأطفال الآخرين الذين لم يتم الكشف عنهم يوصفون بالأطفال العاديين، وهذا بدوره له تداعياته نظراً لحساسية الموقف، وهذا بدوره يجعلنا نؤكد أهمية التدقيق في عملية الكشف حتى لا نسقط طفلاً موهوباً، ونرفع قدر طفل عادي من خلال أدوات لا تستطيع أن تميز بين الطفل الموهوب والطفل العادي
إقرأ أيضا لـ "سكينة العكري"العدد 1208 - الإثنين 26 ديسمبر 2005م الموافق 25 ذي القعدة 1426هـ