حالات التعب والإعياء بدأت تظهر منذ مدة في تفصيلات كثيرة على السياسة الخارجية الأميركية. مثلاً، في الملف الفلسطيني خفّ حماس الإدارة وطموحها في تحقيق إنجاز يذكر في سجل الرئيس جورج بوش. فبعد الكلام عن «دولة» و«خريطة طريق» و«الجدار المشكلة» اكتفت وزيرة الخارجية بفتح معابر رفح. وبعد وعود أطلقها بوش بشأن ترتيبات تتعلق بأزمة «الشرق الأوسط» تراجع الكلام إلى مستويات دنيا. فالرئيس الأميركي ينتظر الانتخابات الإسرائيلية التي سبقتها سلسلة انشقاقات وانسحابات من أحزاب تشكلت من فقراتها بنية الدولة الصهيونية. كذلك ينتظر الرئيس ما ستسفر عنه الانتخابات الفلسطينية والمكاسب التي يرجح أن تحققها حركة حماس. مظاهر التعب يمكن ملاحظتها أيضاً في الملف اللبناني. فبعد أحاديث وتصريحات وتدخلات شبه يومية لاذت واشنطن بالصمت في المدة الأخيرة، ولم تعد تتصرف بتلك الحيوية والقوة والضغط الدائم كما حصل خلال فترة الـ 15 شهراً الماضية. فالكلام عن الحرية والسيادة والاستقلال تراجع كثيراً وكأن واشنطن أصيبت باليأس من إمكان تحقيق اختراق وبدأت تفكر من جديد في المسار المضطرب الذي دخله لبنان. كذلك يمكن مشاهدة المنظر ذاته في الملف العراقي. فبعد تصريحات نارية دائمة تطلق صيحات الحرب وتهدد وتتوعد وتعد الناخب (دافع الضرائب) بالانتصار الكامل والنصر المؤزر على العنف والإرهاب، أخذت الإدارة تزيد من جرعة الكلام عن انسحابات متتالية من بلاد الرافدين تنتهي مع نهاية عهد «كليم الله». هذه الحالات يمكن مراقبتها على أكثر من صعيد وملف. حتى السودان لم تعد واشنطن تذكره في خطاباتها. كذلك أفغانستان لم يعد يرد ذكرها في السجالات الا في حالات نادرة. كذلك الملف النووي الكوري الشمالي والتسلح العسكري الصيني وغيرها من نقاط ساخنة. ماذا حصل حتى تظهر فجأة كل أعراض الشيخوخة في إدارة امتهنت منذ خمس سنوات سياسات الاندفاع الأهوج في التعامل مع قضايا العالم ومصالحه وتوازناته؟ حتى الآن لا توجد معلومات واضحة تشرح مظاهر هذه الشيخوخة المبكرة. فالمشاهد متضاربة والحديث عن تغيرات في السياسة الأميركية الخارجية لايزال سابقاً لأوانه. وحتى تتضح الصورة ويستقر المشهد على ثوابت مغايرة لذاك «الصداع العالمي» الذي سببته سياسات إدارة طائشة وغير عقلانية يمكن طرح احتمالات كثيرة تقف وراء هذا الجمود في الروح العسكرية. هناك معلومات تشير إلى وجود خلافات داخل طاقم الإدارة، وتحديداً بين وزيرة الخارجية ووزير الدفاع. فالوزير دونالد رامسفيلد من الصقور، ويريد استكمال ما بدأه وإلا يستقيل من منصبه. وهو فعلاً عرض استقالته ثلاث مرات ورفضها الرئيس بوش. اما الوزيرة كوندليزا رايس وهي أيضاً من الصقور، فإنها كما يبدو، تميل إلى سياسة أخذ الوقت والتفكير، وترفض تدخل «البنتاغون» في شئون وزارتها. هذا احتمال. احتمال آخر. تشير معلومات غير واضحة المعالم إلى بدايات خلاف في وجهات النظر بين الرئيس بوش وجناح «المحافظين الجدد» الذي سيطر سابقاً على إدارة واشنطن. والخلاف بدأ منذ سبتمبر/ أيلول الماضي حين وافق الرئيس من حيث المبدأ على القبول بفكرة الانسحاب من العراق، ولكنه لم يوافق على جدول زمني محدد. والبدء في إعادة تنظيم الانتشار العسكري يعني بالنسبة إلى عقول متحجرة وحامية بداية اعتراف بالهزيمة حتى لو جاءت بعد حين. الرئيس بوش كما يبدو، دخل في حال ملل. ولم يعد يثق بقدرات طاقمه الذي شرشح الولايات المتحدة دولياً وأدخلها في متاهات ودهاليز «الشرق الأوسط». كذلك بدأ يشك بالحلقات القريبة منه، وخصوصاً من دائرة أصدقاء «إسرائيل» وهي الدولة التي أعطاها كل ما تريده ولم ترد له الجميل بتقديم تنازل بسيط يساعده على تحريك عجلة «خريطة الطريق». هناك الكثير من الأمور يمكن ادراجها لتحليل طبيعة الصدمة النفسية (القرف السياسي) التي بدأت تظهر ملامحها على المواقف الأميركية. إلا أن مبدأ الشك يجب أن يستمر حتى تنجلي كل زوايا المشهد. فالشك قنطرة اليقين حتى لا تنخدع الأطراف المعنية بحالات الاسترخاء الأميركية. فالاسترخاء ليس دائماً دليل ضعف، وإنما قد يكون فترة هدوء لأخذ نفس طويل... لمهمات أخرى وعاجلة.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1207 - الأحد 25 ديسمبر 2005م الموافق 24 ذي القعدة 1426هـ