مؤتمر مكة الذي انتهى قبل نحو أسبوعين، لامَسَ في بيانه الختامي جرحا مؤلما أراد نكأه في العلن بغية معالجته بعزيمة الواثق والعارف بمتطلبات الوحدة والقوة الداخلية (الاجتماعية)، وضرورة الإعداد لها لمواجهة التحديات المحدقة. جاء إعلان مكة ليؤسس لمرحلة مقبلة من العلاقات الداخلية في المجتمع السعودي، والمجتمعات الإسلامية الأخرى، قائمة على الاعتراف والاحترام المتبادل بين مكونات المجتمعات الإسلامية. كان ذلك إعلان دول وحكام وقادة، لكن يبقى الدور على كل الكيانات والأطياف المترامية على تراب هذا الوطن الكبير لتعزّز من حضورها وفاعليتها كي تساعد هؤلاء القادة في تحقيق الهدف الأسمى الذي يسعون إليه من الوحدة والتعاون والعيش المشترك بأمن وسلام بين مختلف المدارس والمذاهب والتوجهات التي أشار إليها البيان الختامي لقمة مكة. بهذا القدر من الكلام أؤكد أنني لا أعني أن مسئولية الدولة قد توقفت بمجرد إعلانها بلاغ مكة أو تبنيها المؤتمر، بل تبقى هي المحفز والمحرك الدائم لمشاعر التوافق والتعايش بين مختلفات مكونات نسيجنا الوطني. ما عنيته بكلامي أن تكون تلك الأطياف عضداً ومساعداً ومبادراً في الإجراءات العملية لهذا النوع من التطبيع، ليتحول بيان مكة الختامي من حبريته وورقيته إلى واقع قائم تعززه الأدوار التي ينهض بها كل متنعم بخيرات هذا البلد ومستفيء بأمنه. هنا لابد من الالتفات إلى أمرين خطيرين لابد من الإقلاع عنهما استجابة للخطاب الإيجابي العام وتعاطياً مع المتغيرات التي تشهدها البلاد في غالبية مجالاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. الأمر الأول: هو الاعتماد على حال التشكي والتذمر والتظلم لتعزيز المكانة ونيل الحقوق، فوضع الضحية وإن كان يستدر عطف الآخرين ويدفعهم إلى التساؤل والبحث والتحقيق والتضامن المعنوي في أحيان نادرة، فإنه غير مجد حين تختلف الظروف، ويتحدث الرأس الأول في بلادنا عن مشروع يبحث في الحل بعد الإشارة إلى وجود مأزق. هنا لابد أن تكون الخطابات والأطروحات في منحى الحل، والخروج من أغلال الماضي، والانفتاح على أفق جديد. خطاب التشكي والتظلم يبقى خطاباً مرحلياً يمكنه أن يستثير لكنه لا يبني، ويمكنه أن يحقن النفوس لكنه لا يؤسس لفعل إيجابي يرتقي بالمجتمع ككل، ولا يخدم أي مكون من مكوناته، بل قد يكرّس حال من الإحباط واليأس وإظهار المستجدات الحسنة في صورة سوداوية تمنع من التعاطي والاستثمار الإيجابي. الأمر الثاني: هو الاعتقاد بأن تعزيز المكانة والحضور تابع لتصور كل مكون من مكونات هذا المجتمع وكل طيف من أطيافه عن نفسه، فمادام يعتقد أنه على حق وعلى صواب، فهذا مبررٌ تامٌ لينال موقعه المناسب في عالم تتصارع فيه الإرادات والإنجازات. هذا التصور عادة ما يتبلور ويبتنى في الأذهان حين يصاب المجتمع بالشلل ويعجز عن الفعل والمنافسة والعطاء الأمثل، سواءً على صعيد المجموع والوطن الذي يعيش فيه، أم على صعيد وضعه الداخلي الخاص بمجتمعه الصغير، الذي يشكل مفردة من مفردات البلد الكبير (الوطن). مهم جداً أن نفرق بين أحقية أن يفتخر الكل بتراثه وأفكاره ورؤاه وتصوراته عن نفسه، وبين أن نصنع في أذهاننا نوعاً من التلازم بين هذا الفخر وهذا الاعتزاز وبين الحجم الذي يمثله والفراغ الذي يملؤه، والرصيد الفعلي المحسوب له. إن الخيار الأصلح للاتباع من وجهة نظري هو أن تعزيز المكانة يأتي بالحضور والمبادرة والمساهمة في الوضع العام، ولا تغني عن ذلك المساهمات المبذولة في المجتمع الخاص فحسب، فالأفق الاقتصادي على مستوى البلاد مثلاً، بحاجة إلى حضور التجار على اختلاف مشاربهم، والمشروعات المعروضة بحاجة إلى تبنيهم لها ليس بشركات صغيرة محدودة ومغلقة على مجتمعاتهم الخاصة، بل على مستوى الوطن وبسعته، وإذ وجد المواطن ووجدت المصلحة. والمثقف واحد من المدعوين إلى الكتابة بلغة يقرؤها الجميع لملامستها القضايا المشتركة بعيداً عن التخصّص الموغل في القضايا الداخلية الجزئية، وعادة ما يلعب هؤلاء دوراً بارزاً في تقريب وجهات النظر، لأنهم يكتبون ويبحثون بحرية نأت بهم عن الكثير من القيود والأغلال الاجتماعية التي ربما لبسها غيرهم حساباً لمعادلات أرضية قائمة، أو لمعادلات هلامية لا وجود لها سوى عالم التصور الذهني الواسع. وعالم الدين الواعي بالزمان العارف بمتغيراته، يجب أن يكون الداعم والمحفز لجهود مجتمعه المتجهة باتجاه الكل والكيان الكبير (الوطن)، وأن يمتلك من الأخلاق والتسامح ما يحفظ للبلاد عزتها، ويؤكد للمواطنين حقوقهم ومكانتهم اللائقة بهم. وأتصور أن أسمى ما عالم رجل الدين هذا أن يتبنى القضايا المشتركة، التي ربما يدافع فيها عن الآخرين المختلفين معه. نحن (وأياً كان هذا النحن) بالقدر الذي نوجد فيه في المشروعات العامة، وبالمقدار الذي نخدم فيه الوطن ككل، سنستطيع أن نعزز مكانتنا. هذا هو الطريق ودون ذلك ستبقى أي جماعة (أو مجتمع صغير) على قارعة الطريق، يريحنا أن تكون الأعين ناظرة إلينا بشفقة، والكلمات المعسولة تسلينا بتعازيها، وهذا ليس خيار العقلاء ولا الطموحين، فالذين يصنعون مجدهم هم الذين يبادرون من دون تلكؤ ويندفعون بعقل وحكمة، ويراهنون على تليين الواقع بالمزيد من رعايته وسقايته والاستفادة من فرجه وفرصه. نعم، يبقى في الختام أن نقول إن المسئولية الكبرى هي مسئولية الدولة، ولكن لا أحد منا يمكنه أن يعفي نفسه من الشراكة مع الدولة في منحاها الإيجابي خدمة لمجتمعه وللوطن عموماً. المهمة ليست بالسهولة التي نتصور، لكن دأب العقلاء أن يجمعوا اللبن ويشدوها ببعضها في تراكيب تعجز عوامل التدمير والإفشال عن النيل منها، متمسكين في ذلك بتوجيهات القادة لتكون حمايتهم، وطريقهم الواضح نحو هدفهم الكبير(الوطن)
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"العدد 1206 - السبت 24 ديسمبر 2005م الموافق 23 ذي القعدة 1426هـ