قبل عامين تقريباً، وفي أعقاب سقوط بغداد المدوي، التقيت بأحد أشهر «المتّهمين» عربياً بقبض «كوبونات صدام»، أثناء زيارته للمنامة. الجرح كان حينها طرياً، والحرقة في قلوب «الصدّاميين» المتضررين مازالت كبيرة، خصوصاً بعد أن جفت جيوبهم مع إغلاق فروع مصرف الرافدين، تحدّث صاحبنا عن دول الخليج، موزّعاً تهم الخيانة والعمالة للأميركان على حكّامها دون تمييز، لأنهم «فتحوا مطاراتهم وقدّموا قواعد بلادهم الحربية وكافة التسهيلات لتدمير العراق الشقيق وقتل شعبه، وانهم شركاء في كل قطرة دم عراقية سفحت في غزو العراق». أثناء اللقاء، كانت تفلت منه كلماتٌ حادة، بحق الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين... ربما كان في بداية الطريق لتلمّس الانهيارات التي سببها صدام للأمة العربية، بسبب حماقاته ورعونته والاستبداد الذي ميّز عهده الدموي. من تلك الأوصاف البذيئة التي فلتت من لسانه مازلت أذكر جيداً كلمات «الحمار» و«الكلب» و«الحيوان»، عند تفريغ المقابلة لم استخدم هذه الأوصاف، على رغم كراهيتي الشديدة لطاغية العراق، مراعاةً لمشاعر بعض البعثيين والبعثيات الماجدات ممن لايزالون يحسنون الظن بصدام حتى الآن، خصوصاً أنهم من ضحايا الإعلام الموجّه. ولأن صدام لم يكن أكثر من وزارة حربية ومخابرات وإعلام، فإنه حاول الاستمرار في لعبة الدجل بعد سقوطه، فصدّام هو صدّام، لم يتغير في شيء، فهذه هي الطريقة التي حكم بها العراق طوال 30 عاماً. يلقي القبض على المواطنين المشكوك في ولائهم لعظمته، وبعد سنوات من الاضطهاد والتعذيب، يطلق سراح المحظوظين منهم، ليحملوا صوره ويطلقوا الزغردات، وتأمرهم المخابرات بإظهار الفرح أمام كاميرات التلفزيون لقرار «العفو» ومكرمة «السيد الرئيس»، في جلسة سابقة شكا صدام من مصادرة القرآن الكريم منه، فاستجابت له المحكمة فدخلها حاملاً القرآن، ليظهر للعالم تمسّكه العظيم بكتاب الله، ولكي لا يبقى شكٌ لدى الأمة العربية بأنه «أمير المؤمنين»، هذه اللعبة ليست جديدة، إذ لعبها مع الطلقات الأولى لحرب الخليج الثانية ،1991 وهو في مخبئه الحصين استعار الآية القرآنية في الحرب لاستغفال العرب السذج: «يا نارُ كوني برداً وسلاماً» على العراق، وطبعاً كانت برداً وسلاماً عليه وعلى أفراد عائلته في حصونهم المشيدة، لم تخدش منهم يدٌ ولا إصبع، أما العراقيون فكانت تقع على رؤوسهم الحمم والنيران، في لعبته الأخيرة، طلب فخامته من القاضي رفع الجلسة ليصلّي، ولمّا لم يعره القاضي اهتماماً، توجّه نحو القبلة وقام بأداء حركات الصلاة من على مقعده في قفص الاتهام... فهل يشك أحدٌ أنه «رئيس الموحّدين في العصر الحديث»؟ حتى الأخ غير الشقيق لصدام (برزان التكريتي)، تلميذه الأصغر في الإجرام، والمتهم بالكثير من الفظاعات، جاراه في ألاعيبه، ولم يتورع عن وصف الشاهد أمام هيئة المحكمة بـ «الكلب»، فهذه هي التربية التي تربى عليها من حكموا العراق 30 عاماً. أحد الشهود قال إنه شاهد أحد المعتقلين يدخل غرفة التعذيب، وبعد ساعتين خرج جثة هامدة، يرافقها برزان، فخلال ساعتين أجهز الجلاد على الضحية دون أن يرف له جفن، ثم يقف بعد ربع قرن من الجريمة ليتهم الشهود بالكلاب، فالرجل له سوابقه، ففي منتصف العام ،1980 كان يخاطب سجناء تمرّدوا على سوء المعاملة في سجن أبوغريب قائلاً: «إن أراد أحدكم أن يبقى حياً ويرى أهله ثانية فعليه السكوت والعودة الى زنزانته، أما الذين لا يرجعون فسيموتون كالكلاب». فهذا هو مبلغه من الوقاحة وسوء الأدب، بعدها أمر حرّاسه بإرغام السجناء على العودة الى زنزاناتهم بالاسلحة النارية ومسيلات الدموع، وأمر بقطع الماء والكهرباء عنهم، وقلّل عنهم لاحقاً حصتهم من الطعام، على طريقة الجيش الأموي في تعامله مع المعارضين. المرء لا يحزن على الطغاة، لأنهم ببساطة قومٌ لا يتغيّرون، ولو عادوا إلى السلطة لفعلوا بالعراقيين أضعاف ما فعلوه من قتل وتهجير... لكن يحمد الله على أن أنقذ الشعب العراقي من سطوة الجبابرة المتكبرين
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1206 - السبت 24 ديسمبر 2005م الموافق 23 ذي القعدة 1426هـ