لنفرض أنني واحد من أصحاب تلك المحلات التي دعا الاقتراح برغبة المقدم من بعض النواب لإغلاقها أثناء صلاة الجمعة. ولنفرض أن الحكومة داعبت النواب أيضاً وخشيت (مثل جاري عادتها) ان تطالها تهمة «قلة الإيمان» ووافقت على الاقتراح. تباعاً، سأغلق المحل التزاما بقانون أو قرار يصدر في هذا الصدد وأبديت علامة على الإيمان واحترام الشعائر. هل يهم النواب من أصحاب الاقتراح معرفة دوافع احترامي هذا الذي أبديه بالانصياع لقرار مثل هذا؟ لنفرض أنني أغلقت الدكان وبقيت داخله وأخرجت زجاجات خمر وبدأت أشرب الخمر. أو أنني دعوت بعضاً من أصدقائي وبدأنا نلعب القمار. أو أنني قمت بأي عمل من أعمال الفحشاء أو أخرجت أفلاما إباحية وبدأت اتسلى بها. أو دخلت موقعاً للحوار على شبكة الانترنت وبدأت اكيل كل أنواع الشتائم المقذعة لرجال الدين، أو أنني شاهدت مباراة لكرة القدم يبثها التلفزيون أو استمعت لإذاعة، أو دون هذا العناء كله استلقيت ونمت. وإذا صادف أن مر نائب من أصحاب الاقتراح بسيارته الفارهة وشاهد محلي مغلقا، فهل يتعين عليه أن يطلق ابتسامة رضا موقنا أن إغلاق المحل علامة على إيمان صاحبه؟ ولو حدث هذا وأنا عائد إلى المحل لافتتاحه من جديد وبادرت النائب المحترم بالتحية ومقتضيات المجاملة من باب النفاق، فهل سيطمئن إلى أنني أغلقت الدكان بدافع حقيقي من الإيمان؟ أترون المتاهة هنا؟ لن تكشفوا اعماق هذه المتاهة الا إذا استدعيتم أمثلة مقابلة. لنفرض أنني ابقيت الواجهات الزجاجية للمحل مفتوحة وأغلقت الباب أو تركت عاملاً أجنبياً مسيحياً أو هندوسياً أو بوذياً وذهبت إلى الصلاة في الجامع. انهيت صلاتي وعدت الى المحل لأشاهد النائب المحترم نفسه وقد ترجل من سيارته الفاخرة غاضبا وأخرج قلما وورقة وقام بتسجيل رقم المحل واسمه واسم صاحبه ورقم سجله التجاري لكي يشهره فيما بعد في جلسات مجلس النواب أمام الوزير المعني، أو بالاصح أمام كاميرات التلفزيون مصحوبا بالصراخ تحسرا على قلة إيمان أهل هذا البلد وكفرهم. هل يقدم له المحل المفتوح دليلاً على إيماني والتزامي باحترام الشعائر من عدمه؟ أم تراه سيأخذ على تشغيلي لعاملين أجانب من غير ملة المسلمين؟ هل توظف هندوسيا من أولئك الذين هدموا مسجد البابري في الهند؟ أو بوذيا لا ينتمي لأهل الكتاب؟ أو نصرانيا فيما النصارى يحتلون العراق ويستبيحون حرماته ويقتلون إخواننا العراقيين؟ ما الذي يهم النواب أكثر: الباب المغلق أم الدوافع الحقيقية لإغلاق باب المحل؟ انهم يبحثون عما لا يمكن البحث فيه. انهم يبحثون عما في قلب صاحب المحل ودوافعه الحقيقية للايمان من عدمه. ولانهم يدركون المشقة التي لا تعادلها مشقة في التاريخ كله، فإن تطبيق الاقتراح يستلزم التدقيق فيه وحملات للتأكد من الالتزام. من الذي يمكننا من ذلك؟ الشرطة طبعاً. لكن جهاز الشرطة ينهض بمسئوليات لا حصر لها، إذاً فلينشئ جهازاً وأجهزة لا أول لها ولا آخر من المخبرين والوشاة. لنسمهم هنا حراس الإيمان. من يتحمل نفقات مثل هذه الأجهزة؟ بالتأكيد ليس من أموال التبرعات ولا المحسنين، من يتحمل نفقات أجهزة الوشاة والمخبرين وحراس الإيمان هي الدولة طبعاً. أليست الدولة هي حارسة الإيمان وحامية العقيدة؟ منطق هذا المسعى المضني لقيادة الناس إلى الجنة بالسلاسل لن يفضي بنا الا إلى تضخيم جهاز الدولة وتحمل كلف إضافية لأجهزة الوشاة والمخبرين من حراس الإيمان الذين يتعين عليهم ضبط علامات الإيمان في شكلها الجديد: أبواب الدكاكين المغلقة هل ثمة أغلى من الإيمان؟ لا أدري أي منطق هذا الذي يجعل من باب مغلق مقياسا للإيمان عوضا عن القلوب. الباب معدن أو خشب شاخص ومرئي وملموس، لكن القلب متاهة لا يعرفه الا العبد وخالقه. ليست هذه نهاية الحجاج، بل إنني اساير هذا المنطق فحسب لنكتشف صبيانيته وبؤسه لأن ضرره الاكيد لن يصيب سوى الإيمان نفسه، أقول الإيمان لأن المعني هو الإسلام. لماذا؟ حسنا أسالوا أنفسكم أي إيمان تريدون: الإيمان حبا وطوعا أم الإيمان قسرا وكراهية؟
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 1205 - الجمعة 23 ديسمبر 2005م الموافق 22 ذي القعدة 1426هـ