إعلان وزير الدفاع دونالد رامسفيلد من الفلوجة عن بدء سحب القوات الأميركية من العراق لا يعني أن واشنطن تريد مغادرة بلاد الرافدين في أقصى سرعة ممكنة. فالإعلان الذي أطلق بمناسبة عيد الميلاد بحاجة إلى قراءة سياسية حتى لا تستبق الاستنتاجات مقدمات الموضوع ويتلاشى التحليل الواقعي في خضم الاسقاطات الوهمية. فالقفز على الحقائق ربما يؤدي إلى فهم غير دقيق للمشروع الأميركي في المنطقة الأمر الذي يشجع على ارتكاب أخطاء تقلب من جديد المعادلة الدولية في دائرة ما يسمى «الشرق الأوسط» الجديد أو الكبير. لابد من قراءة التفصيلات في إطار مظلة كبرى حتى يمكن تحديد استنتاج دقيق لمجرى الوقائع الميدانية والدولية. فالإعلان عن بدء الانسحاب هو أقرب إلى تخفيف عدد القوات من 160 إلى 148 ألفاً على دفعات تبدأ في يناير/ كانون الثاني وتنتهي في مارس/ آذار من العام المقبل. العدد الإجمالي الذي سيسحب خلال الشهور الثلاثة المقبلة لن يتجاوز 12 ألفاً وهو مجموع القوات التي أرسلت قبل فترة زمنية لمراقبة الانتخابات العراقية التي جرت في 15 ديسمبر/ كانون الأول الجاري. القوات الأساسية ستبقى إذاً على حالها إلى فترة قد تمتد إلى نهاية العام المقبل، وبعدها يبدأ العد التنازلي الفعلي في السنتين 2007 و.2008 ولا يستبعد أن تضطر واشنطن إلى سحب كمية أخرى من قواتها قبل موعد انتخابات الكونغرس النصفية في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. وهذا الاحتمال يدل على وجود ضغوط داخلية على إدارة جورج بوش وخصوصاً من الحزب الجمهوري الذي يتخوف من انعكاسات سلبية على خيارات الناخب وتوجهاته المتصلة بالسياسات الخارجية. العامل الداخلي مسألة مهمة في قراءة الموقف الأميركي من خريطة الصراع الدولي وما يتفرع عنه من سياسات تتعلق بموضوع «الشرق الأوسط» وأمن الخليج واستقرار العراق ودور إيران في المعادلة الإقليمية... وصولاً إلى أصل المشكلات المتمثل في فلسطين والصراع العربي الإسرائيلي. اهمال العامل الداخلي في قراءة الموقف الأميركي يشوش على المسألة ويعطي إشارات غير دقيقة لفهم طبيعة المسار العام الذي تلجأ إليه واشنطن للتوفيق بين المصالح الداخلية (الانتخابية) ومجموع المصالح القومية. وهذه المصالح لا يمكن عزلها عن دائرة الخليج التي تعتبر أهم وأخطر رقعة جغرافية تمس الأمن الأميركي على المستويين الاستراتيجي العسكري (منطقة وسطى بين آسيا وأوروبا) والاقتصادي (حقول النفط والغاز والناقلات والأنابيب). العامل الداخلي يلعب دوره في ترسيم حدود السياسة الخارجية ومدى تأثيرها السلبي أو الإيجابي على حسابات الربح والخسارة. كذلك تلعب النتائج الخارجية المتأتية من تلك السياسة الدولية دورها في إعادة إنتاج مواقف داخلية تتناسب مع التوجهات الخاصة للرئيس وبرنامج الحزب واللوبيات (المافيات) التي يمثلها في الإدارة ويدافع عن مصالحها حين يرصد لها مليارات من الدولارات في الموازنة السنوية. كل هذه الأمور يجب أخذها في الاعتبار حتى لا تقع الأطراف المعنية مباشرة في تداعيات المشروع الأميركي، بقراءات خاطئة تدفع بعض الجهات نحو اتخاذ خطوات غير عقلانية ومدروسة لتقدير المواقف السياسية. لابد إذاً من مقاربة واقعية لفهم الدوافع الفعلية التي أملت على وزير الدفاع الأميركي الإعلان عن بدء التخفيف من حجم قوات الاحتلال. وهذه المقاربة تشير إلى نوع من «جائزة ترضية» من قبل الإدارة للناخب الأميركي (دافع الضرائب) بمناسبة عيد الميلاد. والجائزة تريد القول إن مهمة القوات لم تفشل بدليل أن العراقيين اقبلوا على الانتخابات التشريعية وبدأ المسار الديمقراطي يعطي ثماره السياسية. الإعلان عن سحب جزء من القوات هو أقرب إلى ذاك الخطاب الترويجي الموجه إلى الداخل الأميركي أكثر مما هو رسالة سياسية تريد واشنطن بعثها إلى المنطقة العربية الإسلامية. فالسياسة لم تتغير في خطوطها العامة إلا أن واشنطن دخلت في سياق جديد املى عليها ترتيب أولوياتها واضعة أمن الخليج (النفط) في مقدمة المهمات المقبلة. وهذا الترتيب يستدعي إجراءات كثيرة عسكرية وغير عسكرية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1205 - الجمعة 23 ديسمبر 2005م الموافق 22 ذي القعدة 1426هـ