العدد 2433 - الإثنين 04 مايو 2009م الموافق 09 جمادى الأولى 1430هـ

«عين السائح»... وصورة الذات: مفارقات إنسانية

هبة رؤوف عزت Heba.Raouf [at] alwasatnews.com

كاتبة مصرية

في علم الاجتماع الحديث هناك اهتمام بدراسة السياحة وكيف يتفاعل الناس مع المكان والزمن.

فالسياحة ليست نشاطا اقتصاديا فحسب تقوم عليه صناعات وخدمات متعددة في دولاب رأس المال في المجتمعات اليوم، حتى أضحت مصدرا للدخل القومي، لكن السياحة -وهذا كثيرا ما ننساه- اختيار فردي... وتفاعل ثقافي... وما بين أسواق السياحة واختيارات الفرد وحسابات الجماعة تدور رحى حروب على تلك الجبهات المختلفة.

لا أحد يجبرك على السفر، أنت تتخذ قرارك بنفسك، هل تريد الذهاب للحج إلى أرض مقدسة أم البحث عن المتعة في تجوال لمشاهدة الطبيعة أم زيارة لآثار الغابرين... أم تريد فسادا في الأرض؟!

لكن قرارك هذا من ناحية محكوم بتصورك أنت عما تريد، واليوم هناك ماكينة ضخمة لتسويق العروض السياحية تريد إقناعك بأنك تريد هذا أو ذاك، ففن الإعلان هو جرك إلى مساحة ما وتزيين اختيارها في عينك، فلا تقول في النهاية ذهبت لأنه كان أرخص العروض لقضاء إجازتي بل تزعم أنك كنت دوما تحلم بزيارة ذاك البلد أو تلك المدينة.

لكن من ناحية أخرى هناك صور نمطية في أذهان الناس عن الثقافات الأخرى، ولأن الناس في الغرب يظنون بلاد الشرق هي أساطير ألف ليلة وليلة فإن تسويق مصر أو تركيا لن يخلو أبدا من تصور لبساط الريح وركوب الجمال وقضاء سهرة يستمتع فيها السائح بمشاهدة الرقص الشرقي.

هناك إذا علاقة جدلية معقدة بين تصورات السائح وتوقعات حملات التسويق، أو توقعات السائح وتصورات حملات التسويق. هذا هو ما يخلق فكرة «عين السائح» أو» إطلالة السائح» كمصطلح، أي نظرته للمكان الذي يزوره وما يتوقعه، والتي يجب أن يكون غاية الشركات السياحية توفيرها له لينظر ويرى هناك فيشاهد ما كان يتوقع... منظرا للأهرامات وحولها الخيول والجمال وكأن خمسة آلاف سنة لم تمر، أو مدينة مغربية تبدو كأنها خرجت من كتاب التاريخ، أو جولة في الصين ليرى النساء يرتدين أزياء لم تعد المرأة الصينية تستخدمها في حياتها العادية، أو يشاهد رقصة وهو يحتسي المشروبات في مرفأ في أميركا الجنوبية هي الرقصة التي ظهرت في فيلم أميركي عن أميركا اللاتينية شاهده الملايين فارتبطت صورة هذه البلد بتلك اللقطات... التي تريد عين السائح أن تجدها... هناك.

مشكلة هذه الدورة بين العرض والطلب هي أن المجتمع الذي يعتمد على السياحة يتأثر، فبعض المناطق يتم تحويل كل الخدمات فيها للقطاع السياحي فتخسر كفاءات متميزة في مجالات أخرى، وبعض المدن تتوقف التنمية فيها لأن «نظرة السائح» لا تريد أن ترى العمران بل الصحراء والمباني التي تشبه المباني التاريخية، فتجني المجتمعات الربح من السياحة والسائح لكن هناك دائما فرصة تنمية بديلة تخسرها.

وهناك بالطبع البعد الأخلاقي والفجوة الثقافية، فالسائح لم يعد هو ذلك الشخص الذي يتجول بين البلدان وإذا نزل بقوم ارتدى لباسهم بل وعاش بينهم وأحيانا يغير اسمه أو ديانته ليتم تقبله لفترة عادة كانت تطول لظروف وعثاء السفر. السائح في الزمن الغابر كان يتنازل كي يتم الترحيب به ويتواضع كي يتم استيعابه وأيضا تأمينه. أما السياحة الحديثة في السوق الرأسمالي اليوم فالسائح فيها يريد الحصول على المتعة مقابل كل مليم أو فلس أو سنت دفعه، ولا يريد أن يضع عليه أحد القيود، وتعيد المجتمعات تشكيل المساحات من أجل إشباع رغباته-النفسية واليومية والثقافية بل والجنسية أحيانا - في العلن أو في الخفاء.

وليس سرا أن بعض المجتمعات لا تطيق كل التحولات التي تحدث حين يكتسح منطق السوق السياحة والمتعة، فيكون رد الفعل عنيفا وأحيانا إجراميا، فأحداث بالي كانت في منتجعات اشتهرت بدعارة الأطفال وبعض أحداث الإرهاب تعللت بانتهاك السائحين لأعراف المجتمع، ولذا صارت مساحات السياحة كثيفة أمنيا وأضحى عزلهم عن المجتمع في منتجعاتهم يحقق لهم الشعور بالأمن ويضمن أعلى درجة من الراحة لهم في التعامل والتصرف، لكن على الجانب الآخر لا يؤدي ذلك لتفاعل حقيقي مع المجتمع وثقافته.

حكى لي أكاديمي صديق من هولندا أنه كان في عرض الصوت والضوء عند سفح الأهرامات وأنه وجد كل شيء حوله يوحي بالتراث الفرعوني: الآثار والهدايا التذكارية التي تبيعها المحلات الصغيرة في منطقة نزلة السمان، بل بدأ العرض بمرور فرقة تعزف الموسيقى وهي ترتدي زي فرعوني، ولكن أكثر ما أعجبه هو أن هذا المشهد قطعه صوت أذان العشاء. قال لي إنه ابتسم ساعتها لأن المؤذن بدا وكأنه ينبه بالنداء للصلاة كل السائحين إلى أن هناك عمقا ثقافيا آخر لهذا المكان غير ظاهر في تلك اللحظة لأن شركات السياحة تكرس الولع بالتاريخ الفرعوني وتجرد المساحات المتحفية والأثرية من تركيبها الذي في الحقيقة يعجب السائح ويفهمه تماما.

على الجانب الآخر عايشت في زيارتي للفاتيكان منذ عامين هذا الإحساس بالاختلاف، حين دخلت أكبر كنيسة وشاهدت أكبر لوحات على السقف رسمتها ريشة مايكل أنجلو وتجولت بين التماثيل ونظرت للمؤمنين يزورون مكانهم المقدس من بلاد بعيدة فبدوت أنا بالحجاب خارج الإطار بعض الشيء، رغم أنني كنت أبدو أكثر تناسقا من مشهد الراهبات من غالبية الزائرات اللاتي لم يحترمن في أحيان كثرة جلال مكان العبادة ويتجولن بملابس تصلح للتسوق في يوم حار أو لركوب الدراجات في منتجع!

مؤخرا حكى لي صديق من بلاد الشام عن زيارته الأولى للبحرين ودبي، عن المنامة القديمة وعن الطبيعة الجميلة في بر الإمارات، فكان أول ما حدثني عن البحرين والإمارات الأصلية: الناس والمكان والتاريخ، وليس المراكز التجارية والتسوق وغيرها... وحسب.

وفي دائرتي المحدودة لا أعرف أحدا خطط لزيارة سياحية لدولة إسلامية من دول الاتحاد السوفيتي السابق، على عمقها التاريخي وغناها الطبيعي.

في بلداننا العربية هناك ولع بالسياحة الغربية، وهناك شعور وهمي بأن الشرقي (أقصد القادم من بلاد الشرق خاصة الشرق الإسلامي كماليزيا وأندونيسيا ومساحات الإسلام في الهند وغيرها) لن يدفع مثلما يدفع الغربي، وهو ظن خاطئ تماما، فقد التقيت من المسلمين والشرقيين من اليابان والهند وأستراليا وباكستان وماليزيا وأندونيسيا أناسا لديهم القدرة على السياحة ولديهم المال والاهتمام، ويملكون الحساسية الثقافية والاجتماعية، لكن التسويق السياحي للبلدان العربية عندهم محدود للغاية.

هل هذه ثقافة السوق، أم رؤى حاكمة لخبراء صناعة السياحة تفضل الغرب على الشرق، أم كسل وتكاسل في فتح أسواق جديدة، أم احتكارات مستقرة لا تقبل التحدي؟ لا أدري، لكن استراتيجيتنا السياحية تحتاج مراجعة بالتأكيد.

الذي نحتاج أن نراجعه وننظر فيه أيضا هو خياراتنا السياحية كمجتمعات، أين نذهب وأي البلاد نختار؟ وحين نكون هناك ما هي الرسالة التي نبثها عبر السلوك والمواقف للمجتمعات المحيطة التي تبني بدورها رؤيتها عنا عبر أفراد وأسر ومجموعات؟

نتصرف بدورنا في بعض الأسفار كشعوب من نفس المنطلق: نريد أن نحقق متعتنا بالسفر وفق منظومتنا نحن، فنشعر بالراحة في انطلاق الأولاد في أماكن وأوقات لم يعتدها الناس، وفي ظل أزمات تمر بها بعض البلدان نتحرك بسلوك استهلاكي قد يستغربه البعض، ولا يرانا أحد في المتاحف وأماكن الآثار والقلاع القديمة ومعارض الكتب الدولية، بل نتواجد في المطاعم والمحال والمتنزهات، أو لو سافر بعض العرب فرادى إلى بعض الدول للمتعة الحرام فإن الصورة الذهنية تتشكل بالتالي على هذا المحور في تلك المجتمعات حتى أن أخي كاد يغير مواعيد عودته من أحد البلدان لشدة ما طارده الناس هناك بعروض وتحرشت به نساء في المطعم وفي المتاجر.

السياحة ليست بابا واحدا بل هي أبواب كثيرة، وهي مرشحة لأن تكون أحد مسارات تفاعل الشعوب وتواصل الأمم، ولكن الأبعاد الاجتماعية والثقافية يحدث لها تآكل في ظل طغيان الأبعاد الاقتصادية لحسابات السوق من ناحية وحسابات المنفعة وتعظيم اللذة الفردية من ناحية أخرى. الخطر الآن هو من هذا الاغتراب المتنامي الذي يدفع الناس للتراجع عن السفر، فقد أحجم العرب عن زيارة الغرب بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، وتحولت السياحة لماليزيا وتركيا وباقي البلدان العربية، وأضحى السائح الغربي يتجنب مساحات «الآخر» العربي أو المسلم ، بل وتحذره بعض المساحات الإعلامية من زيارة دولنا بزعم خطورة الموقف أو حتى بسبب حوادث المرور (آخر تقرير قرأته لصحيفة بريطانية تصور القاهرة وكأنها المكان الذي سيموت فيه القارئ تحت عجلات السيارات لو فكر في زيارة مصر)، فكانت تلك مسألة ضارة لكنها نافعة لبلدان أخرى ومنها أميركا اللاتينية وشرق أوروبا التي نشطت في حملاتها الدعائية بشكل غير مسبوق. للسياحة منافع وللسفر فوائد، لكن لا بد من استراتيجية ورؤية مركبة، ولم أجد على المواقع العربية شيئا قيّما عن «كيف تقرر رحلتك السنوية القادمة»، أو نصا ذكيا وبسيطا عن «أنت سفير لمجتمعك: الآثار الثقافية والاجتماعية لرحلتك القادمة للخارج».

مع العولمة وسهولة السفر والانتقال نحتاج إلى أن نفكر في ملف السياحة بعمق من كافة النواحي، ونعيد بناء تصور عميق لفلسفة الحل والترحال والتجوال.

إقرأ أيضا لـ "هبة رؤوف عزت"

العدد 2433 - الإثنين 04 مايو 2009م الموافق 09 جمادى الأولى 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً