العدد 1204 - الخميس 22 ديسمبر 2005م الموافق 21 ذي القعدة 1426هـ

العمران... والعقلانية الأوروبية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

توفي ابن خلدون في مطلع القرن الخامس عشر (1403م/ 806هـ)، في القاهرة في عصر دولة المماليك. وكانت الديار الإسلامية آنذاك تعاني من خطر المغول ومحاولات تيمورلنك احتلال بلاد الشام ومصر. أما في غرب أوروبا فكانت البرتغال تعتبر آنذاك الدولة الأولى بحرياً على الأقل، وبدأت تضغط على المسلمين من جهة المغرب فأرسلت قواتها في العام 1415م (818هـ) واحتلت مدينة سبتة (لاتزال تحت السيطرة الإسبانية حتى أيامنا). مقابل ضعف المسلمين من جهة الغرب كانت الدولة العثمانية تضغط على أوروبا في جانبها الشرقي ونجحت في هزيمة المجريين في موقعة قوصرة الثانية في العام 1448م (852هـ) وهي المعركة التي مهدت الطريق للسلطان محمد الفاتح للاستيلاء على مدينة القسطنطينية/ البيزنطية في العام 1453م (857هـ). شكل سقوط القسطنطينية نقطة تحول في توازن القوة بين أوروبا المتحالفة عسكرياً ضد المسلمين والسلطنة العثمانية التي بادرت إلى أخذ زمام القيادة من المماليك في مصر والشام. واحدث هذا الفوز العثماني هزة سياسية في أوروبا وبدأت تحشد قواتها وقواها لمواجهة ما اسمته الخطر الإسلامي. هذا التوازن الزئبقي أحدث اختلالات غير متوقعة جاءت محصلتها النهائية لمصلحة أوروبا حين استفادت القارة من اكتشافاتها الجغرافية وأحسنت توظيفها في العمران. فتلك الاكتشافات جلبت ثروة غير منظورة وأعطت فرصة للممالك البحرية الأوروبية في تحديث أساطيلها وتطوير أسلحتها ودفاعاتها. وهذا ما أدى لاحقاً إلى تعديل موازين القوى لمصلحة القارة على حساب السلطنة العثمانية التي دخلت في مواجهات عسكرية على جبهتين: واحدة امتدت على مساحة أوروبا الشرقية واخرى في بلاد الشام ومصر حين تنازعت مع دولة المماليك وخاضت المعارك معها لانتزاعهما منها. في هذا الفضاء وُلد مكيافيلي. فهذا الفيلسوف وضع في كتابه «الأمير» تصورات أولية عن الدولة. وبفضله انتقل الفكر السياسي من رؤيته التجريبية إلى قانون تتحكم فيه آليات تنظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم وتحدد شروط الوعي بين الغاية والوسيلة. فالغاية الشريفة برأيه تبرر الوسيلة غير الشريفة. بعد ميكافيلي الذي وُلد في العام 1469م (873هـ) بدأت المعرفة الأوروبية في مختلف مدارسها تنطلق وتتأسس في ضوء تطور شعاب العمران. وبقدر ما كانت مجالات العمران تتسع كانت حقول المعرفة تمتد لتلبية حاجات النمو والازدهار. وتحت وقع هذا النمو المتفاوت بين حضارة أخذت تذبل وتتراجع قواها ومواقعها وحضارة بدأت تستفيق وتنهض وتعزز قواها ومواقعها اشتد الحصار على غرناطة (المدينة الأخيرة للمسلمين في إسبانيا) فسقطت ضمن اتفاق وسلمت في العام 1492م (897هـ). توفي ميكافيلي في العام 1527م (933هـ) في فترة اندلعت خلالها ثورة الإصلاح الديني التي ستؤدي لاحقاً إلى انقلاب موازين القوة من شرق القارة الأوروبية إلى غربها ومن جنوبها المتوسطي إلى شمال غربها الأطلسي. فالثورة الإصلاحية الدينية كانت نتاج العمران وتطوره وهي جاءت أصلاً لتلبية حاجات جديدة فشلت الكنيسة الكاثوليكية القديمة على فهمها أو استيعابها. مارتن لوثر أسس كنيسة حديثة (بروتستانتية) ومنها انطلق ليعيد تفسير المسيحية (الأناجيل) وفق معطيات جديدة فرضها عليه تطور العمران. وهذا التطور الديني كان في جوهره استجابة ثقافية ­ سياسية لتحول مركز العلاقات (ثقل العمران) من تجارة متوسطية قديمة إلى تجارة أطلسية حديثة. التطور المعرفي في أوروبا لم يبدأ من ترهات فكرية وتوهمات أيديولوجية نطق بها بعض المثقفين في «مقاهي الشيشة» وأندية ممولة من مؤسسات أجنبية وإنما تأسس في جوهره على قواعد عمرانية فرضت شروطها على النخبة السياسية ودفعها نحو إعادة قراءة الواقع ضمن معطيات ملموسة تقوم على معادلة محسوسة وليست مجرد إسقاطات ذهنية لا صلة لها بالإنسان والتاريخ. هذا الواقع المتغير فرض شروط التغيير وأعاد تأسيس معرفة تتصل بالعمران (الاجتماع البشري) الذي ضغط بقوة على النخبة وشجعها على البحث والتفكير لصوغ تصورات ترد على حاجات الإنسان وغاياته وطموحاته. وبسبب ازدهار العمران ازدهرت المعرفة في مختلف حقولها من هندسة وطب وفن وموسيقى وفكر سياسي وفلسفة. ولهذا السبب العمراني انتقلت أوروبا بسرعة من فترة فراغ أو خواء معرفي إلى فترة احتشدت فيها كل فروع الفكر والفن والفلسفة. فاتساع السوق وحاجاتها أعطى قوة للنخب للتنافس على البحث وشجعها على الاختراع والاكتشاف للرد على متطلبات الدولة واستجابة للتحديات التي قذفها التطور العمراني. بعد ميكافيلي (منظّر الدولة) الذي رحل في عز الثورة الإصلاحية الدينية بدأت القارة تشهد بدايات الثورة العقلانية التي أنتجت مجموعة تيارات حاولت إعادة قراءة علاقات الاجتماع وفق تصورات واقعية (مادية) وضمن منهجية تفكير تطمح إلى تأسيس نظرية معرفة تتصل بالإنسان في محاولة منها لتفسير التاريخ وفق رؤية مستقلة عن تلك الأطر العامة التي وضعها فلاسفة وفقهاء الإسلام. فالمنظومة الأوروبية الجديدة ولدت وترعرعت في فضاء الحضارة الإسلامية وأخذت منها وتعلمت وتفقهت وقلدت في بعض جوانبها ولكنها في الآن مالت نحو إعادة تأسيس معرفة مستقلة بعيدة إلى حد ما عن تأثيرات المفاهيم القرآنية. التأثير الإسلامي استمر إلا أن الاستعارات الفلسفية الأوروبية أعيد إنتاجها وفق معطيات جديدة تلبي حاجات التطور الاجتماعي (العمراني) وتؤسس لمرحلة مختلفة عن عصور لعب خلالها الإسلام دور القائد التاريخي لعجلة التطور العالمي. لجأت الفلسفة الأوروبية المعاصرة إلى نوع من الاستعارة الذكية تختلف كثيراً عن استعارات «النخب العربية المعاصرة» الغبية. فمثلاً هناك من أخذ صفات الله الواردة في القرآن وأسقطها على مفهوم الدولة. فالقدرات الإلهية التي حددها القرآن كصفات للصانع تأثر بها الرعيل الأول من فلاسفة أوروبا. ولكن هذا الرعيل أعاد تحويرها ونقلها من الصانع إلى الدولة. فأعطى الدولة تلك القدرات الكلية والصلاحيات الشاملة واعتبرها هي مصدر التشريع. كذلك هناك من لجأ إلى استعارة أسماء الله الحسنى التي أنزلت في القرآن كصفات على قدرات الصانع وأعاد استخدامها كصفات للعقل. فأسماء الله وصفاته في القرآن تحوّلت عند الرعيل الأول إلى أسماء وصفات للدولة أو العقل. ولهذا اعتبر هذا الرعيل الأول هو المؤسس للفكر العقلاني (الواقعي) الذي نقل الوعي من الغيب إلى العقل، ومن القدر إلى الدولة. آنذاك كان العالم الإسلامي في بدايات هبوطه التاريخي وبدأت تضربه آفة الزمن بينما كان العالم الأوروبي يراكم الثروة والمعرفة ويتوسع في عمرانه وأسواقه ويستولي قطعة قطعة على مناطق المسلمين في غرب إفريقيا وجنوب آسيا. ابن خلدون أحد تلك العلامات التي حددت الاطر العامة لبدايات الهبوط والصعود بين الحضارتين. فهذا الفيلسوف الإسلامي (المفكر السياسي) هو شاهد على تلك المفارقة التاريخية. ففي الوقت الذي بدأ نتاج صاحب «المقدمة» يغيب تأثيره في العالم الإسلامي كانت علوم «المقدمة» التي صاغها أو اكتشفها ابن خلدون تتحوّل إلى مقدمات متنوعة تأسست على قواعدها مجموعة مدارس في علوم الاجتماع والاقتصاد والسياسة وآليات العمران وأسباب تطور الأمم وعوامل انهيارها... ومن ضمنها كيفية تأثر الغالب بالمغلوب في بدايات التحوّل. تأثر الغالب (الأوروبي) بالمغلوب (المسلم) في الفترة الأولى ثم بدأ الغالب يتطور ويستقل في منظومته العمرانية والمعرفية. وهذا الأمر بحاجة إلى قراءة مختلفة عن تلك التوهمات الايديولوجية التي سقطت في شباكها تلك النخب العربية الغبية في منظورها التاريخي (العمراني) لمسألة المعرفة وتطورها

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1204 - الخميس 22 ديسمبر 2005م الموافق 21 ذي القعدة 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً